عن الضيف الذي تحولنا إلى ضيوفٍ عليه
*محمود التميمي
من فترة طويلة لم اهتم بتلبية دعوة لحضور عرض خاص لفيلم سينمائي.. التجارية تسيطر.. الذوق العام المدعى بالزور تارة وبالإلحاح تارة أخرى يفرض شكلاً ما يجعلني أؤثر السلامة والسلام فأجتهد في تجنب أغلب ما يتم انتاجه محلياً.. لكن حزمة من الأسباب دفعتني للذهاب إلى تلبية دعوة فيلم الضيف في عرضه الخاص وكانت المفاجأة.. هذا فيلم غير تجاري بمعنى أنه لا يضع المعايير التجارية قبل أي معيار.. هذا فيلم أيضاً لا يدعي العمق أو التفلسف أو اعتماد الرموز في مواجهة الواقع.
هذا فيلم لم يكن بحاجة إلى تصريح من المصنفات الفنية.. بقدر ما كان عليه التوجه إلى مديرية الأمن للحصول على تصريح وفق قانون التظاهر لا وفق قوانين السينما.. فهذا الفيلم مظاهرة كبيرة قوية واضحة.. مظاهرة كان من دواعي سروري لو أنني قد التحقت بها يوماً ما لفرط اتفاقي مع ما ترفعه من شعارات.
كما أسلفت لا هو فيلم تجاري غرضه المتعة المباشرة ولا هو فيلم متفلسف عميق.. هو في الواقع صفحة جرنال خط عليها إبراهيم عيسى مقالاً دسماً ماتعاً ذو حبكة درامية شيقة ولكن كما يقولون "من الجلدة للجلدة" تعبير عن فكرة واضحة واحدة بشكل مجلجل عن مشكلة مصر مع "الضيف" الذي حل عليها وليس من نبتها، فتحولنا إلى ضيوف عليه، علينا مراعاة شعوره وعدم ازعاجه باعتباره صاحب البيت.
صاغ كل هذا عيسى وهادي الباجوري بشكل مباشر تماماً دون مواربة أو رمز كما لوكان الفيلم مظاهرة شعارها "مصر لا تشبه الضيف".. الضيف الذي حل عليها في السبعينيات مدعياً أنه الأصل ومنبع الحل وطوق النجاة من الطوفان.. الضيف الذي استغل أسوأ هزيمة حاقت بالعرب في ٦٧ فتمدد في وعيهم المهزوم وانتشر في شرايين القلوب وسيطر على مراكز الأعصاب.
هي إذا ً مظاهرة بقيادة إبراهيم عيسى ضد الذين جعلوا من الدين ستاراً لأمراض مجتمعية وغرائز فتك همجية وتخلف حضاري وهزيمة نفسية.. يتضح كل ذلك من خلال اداء تمثيلي راقي من الجميع في مقدمتهم الشاب الذي حصد رصيداً كبيراً بهذا الفيلم أحمد مالك.. وهو ممثل جديد ولد في هذا الفيلم غير ذلك الممثل الذي عرفناه سابقاً.. ماجد الكدواني أيضاً قدم في مشهد واحد في الفيلم إضافة خفيفة الظل كعادته عميقة المعنى في نفس الوقت.. لا يقل عن ذلك وجود محمد ممدوح في مشهد واحد أيضاً قال فيه الكثير والكثير، عن رؤية كاتب الفيلم لدور الدولة في مواجهة التشدد، وكيف أنها قد لا تفلح في الوصول إلى أهدافها بالحلول الأمنية فقط.
اجتهدت شيرين رضا في التمرد على شكل معين طالما ظهرت به مؤخراً ومثلها حاولت جميلة عوض.. أما خالد الصاوي فلقد قدم واحداً من أدوار عمره فكرياً ووطنياً، وإن كان في ظني ليس الأهم سينمائياً، فلقد قدم تمثيلاً أقوى مع مخرجين آخرين استطاعوا فك شفرته الفنية بشكل أعمق من تجربته مع هادي الباجوري، الذي أشفقت عليه من فكرة تحويل نص مناظرة فكرية إلى سينما، بما يستلزمها من لغة سينمائية كان لتتضح ابتداءً على ورق إبراهيم عيسى، الذي يقدم فكراً وشرحاً وشعارات هامة، تعتبر تحدي لأي مخرج يحتاج إلى مخزون درامي أعلى ليستعرض عضلاته على مستوى الصورة.
عامة مرحباً بالضيف السينمائي الجديد "الضيف" وأقول إنه ضيف "هياخد واجبه ويمشي"، لأن أصحاب البيت السينمائي في مصر من السبكي وإخوانه وبقية الجوقة السينمائية التجارية ستبقى مسيطرة على دور العرض وسوق الإنتاج، وهذا يجعل كل الثناء والشكر لمنتج الفيلم نجيب ساويرس مسألة واجبة.. فحسناً فعل بأن أنتج هذا الفيلم الثوري في مواجهة واقع يحتاج إلى إصلاح، وذلك أهم وأفضل من انتاج أغنية "الكوبرا" لبشرى أو التفكير في جمعها مع محمد رمضان في أغنية جديدة.. ركز في الأعمال التي تشبه "الضيف" يا نجيب ولك الأجر والثواب.
*محمود التميمي:
كاتب سياسي له العديد من المقالت في عدة صحف عربية، وساهم في صناعة عدد من أنجح البرامج التليفزيونية، وعمل لصالح مؤسسة BBC، وساهم في تأسيس مكتب قناة سكاي نيوز عربية بالقاهرة.