المدينة في السينما العربية(6/2).. كزابلانكا بالأبيض والأسود وبالألوان
جمال محمدي
بالمغرب كلنا يتذكر فيلم "كازبلانكا "Casablanca"مايكل كورتيزMichael Curtiz( 1942) الذي وظف معالم مدينة الرباط بأزقتها وحواريها ونشاطها اليومي، خلال حقبة هامة من تاريخها العمراني ودورها الإنساني، حين تدفق إليها اللاجئون الفارين من النازية وكانت الدار البيضاء نقطة الانطلاق إلى إسبانيا ومنها إلى أمريكا طلبا للحرية، وفي فيلم الرجل الذي عرف أكثر من اللازم للمخرج العالمي الفريد هتشكوك الذي أدى بطولته الثنائي دوريس داي وجيمس ستيوارت، والذي صورت أغلبية مشاهده بمراكش أين تواطأت المدينة مع كاميرا هتشكوك المهوس بهذه الأماكن، حيث كان يتردد على الأماكن الأكثر فخامة بها، مثل فندق المامونية، والأماكن الأكثر شعبية بمدينة مراكش كمقهى زروال المواسين، مروروا بأحيائها ودروبها، مشاهد يقول عنها فؤاد زويريق كانت كافية لاستكشاف الطابع المعماري والسكاني في مشاهد تعتبر الآن من الصور التوثيقية لمدينة مراكش في فترة الخمسينات .
في سبعينيات القرن الماضي، بدأت الأفلام المغربية تحاكي المدينة المغربية بعيون أبناءها من المخرجين فقد شهدت حاراتها وشوارعها من ساحة حسَّان، أبواب المدينة القديمة، بابالرواح، زنقة السويقة، أسوار سلا، وحفلت بأفلام مثل وشمة (1970) الطفل الذي يعيش بقرية سيدي علي المدينة الناشئة وغاص في مشاكلها الإجتماعية المؤلمة ليرصد سلوكيات مجتمع المدينة المغربية، من خلال معالجة سيكولوجية الطفولة وإرتباطها بالمحيط والثقافة المغربية ومن خلال فيلم الشركي أو "الصمت العنيف" لسنة (1975) الذي تدور خلفياته خلال خمسينات القرن الماضي بمدينة طنجة حينما بدأت بوادر إستقلال المغرب تلوح في الأفق، أو من خلال "دموع الندم" (1982) أفلام صنفت على أنها بداية جادة للسينما المغربية، أفلام ظهرت معها رؤى ومعان أخرى مختلفة أكسبتها نوعا آخر من اللذة والمتعة لم تكن معروفة من قبل، غيرت مفهوم الصورة وتركيبتها،وأصبحت بذلك عدسة الكاميرا عينا صادقة تجتر مناحي هذه الحياة بواقعية لها لون واحد لايتغير ولايتكرر رغم تعدد صورها وأبعادها، تثير إحساسا بالتمرد على الواقع وممارسته بمنظور فني إبداعي مجرد من كل حيف وزيف، يدفع إلى إدراك غائية الفعل السينمائي وقيمته الفنية.
وفي الشريط الوثائقي "كزابلانكا مدينة عصرية Casablanca ville Moderne" (2005) لسيباستيان فيركيندر Sébastien Verkindere على الرغم من أنه يظهر المدينة على هجينة وبلونيين عصرية، قلقة بين كونها لاهي مغربية ولا هي فرنسية، مما يحيلنا إلى طرح أسئلة جوهرية في فن العمارة للقرن العشرين، وفي الحقيقة نرى كثير من الفيديوهات اليوم على اليوتيب للمدن المغربية، لاسيما الرباط والدار البيضاء وطنجة في فترة الحماية الفرنسية الممتدة من العام (1912) إلى العام (1956) سواء تعلق الأمر بالبومات الصور أو الفيديوهات المصورة للفترة الممتدة من 1925 إلى غاية 1956 وما بعدها صور تعكس تطور المدن بالمملكة المغربية عبر السنين.
ربما تبقى مدينة طنجة المدينة الحالمة والجميلة، لها مكانتها المتميزة والآسرة لقلوب السينمائيين، الذين صوروا أفلامهم بها لما تزخر به المدينة القديمة لطنجة من جمالية الصورة ومبانيها وأحياءها العريقة العابقة،مكنها من إستقطاب مئات الأفلام في مشاهدها الخارجية، فقد نزل بفضاءاتها المخرج لبريطاني ديفيد لين David Lean عام 1962 بفيلم "لورانس العرب Lawrence Of Arabia" وفيلم"لعبة الجوسسة" للمخرج توني سكوت Tony Scot (2001) الذي صورت بعض مشاهده بالدار البيضاء في محاكاة لمدينة بيروت، وفي فيلم " قناص أمريكا American Sniper" لكلينت إيستوود (2014) وكانت الرباط مسرحا لبعض لقطاته كما نزل بمدن الرباط وأغادير ومراكش، النجم توم كروز ضيفا في مشاهد من فيلم " المهمة المستحيلة 5 Impossible Rogue Nation" (2015) لتصوير بعض المناظر الخارجية، هذه الأفلام رصدها عبد العزيز الأعرج مؤخرا بشريط وثائقي من عشر دقائق بعنوان " طنجة في السينما العالمية" .
وفي الشريط الوثائقي فيلم "خوانيتا بنت طنجة" لمخرجته فريدة بليزيد (2005) صورت مشاهده بفضاءات مدينة طنجة، شريط يروي قصة إمرأة إسبانية إنتقلت للعيش بإسبانيا منذ نعومة أظافرها، مما جعلها تكن عشقا لهذه المدينة، والذي تحول إلى ارتباط دائم بها، مما جعلها تتمنى أن تدفن في ترابها.. وتطورت سينما المدينة المغربية المعاصرة بشكل لافت في التسعينيات، صور ترصدها أفلام مثل"كازانيغرا" (2008) حينما وظف المخرج نورالدين خماري في فليمه صورة الدار البيضاء، وأختار منها أبطالا عاديين وأستمد منها مشاكل المجتمع ونماذج حية ليعد طرحها وفق رؤية فنية خاصة على الشاشة ، عبر تيمات تتناول طموحات الشباب داخل المدن الكبيرة وأمالهم المشروعة، من خلال الشابان اللذان تجمع بينهما الصداقة والجوار في مدينة الدار البيضاء، في نفس الحي ونفس المدينة، أين يقع الشابان تحت خيار البقاء في المدينة أو الهروب منها نحو الخارج، وعلى غرار فيلم "حجاب الحب" (2008) الذي يبرز مسألة تناقضات المواطن والمدينة بين المعاصرة والأصالة ورصد الظواهر التي تبدو غريبة أو شاذة في المجتمع العربي وغيرها، أو فيلم "حب في الدار البيضاء"(1991) من إخراج عبدالقادر لقطع الذي يعتبر واحدا من أوائل الأشرطة السينمائية المغربية التي حاولت نقل الواقع المغربي بتقاليده وأعرافه لشاشة السينما بطريقة جريئة وخصوصا موضوع الجنس البذيء الدخيل على المجتمع المغربي، وهي القضية التي لطالما تفادتها الأعمال السينمائية من قبل، مرورا بفيلم "علي زاوا"(2001 ) للمخرج نبيل عيوش الذي يحلل ظاهرة أطفال الشوارع المشردين في ضواحي مدينة الدار البيضاء، قبل أن تبلغ قمة الجرأة السينمائيين المغاربة في السنوات العشر الأخيرة بإنتاج أفلام أخرى تحاكي المدن المغربية بآمالها والآمها، مثل فيلم "يوم وليلة" للمخرج نوفل براوي 2013 الذي تتناول أحداثه معاناة "إيزة" المرأة البدوية التي تضطر للنزول إلى مدينة الدار البيضاء، وهناك ستعيش أمورا عديدة تصور قساوة المدينة، وتقع فريسة ذئاب بشرية تستغل سذاجتها البدوية، في بحر هذه المعاناة والأحداث المتصارعة تجد بطلة الفيلم من يحميها إلى أن تلتقي زوجها في النهاية.
لكن مجد هتشكوك بمدينة مراكش لاينسينا كيف تصبح للمدينة أنياب ضارية تأكل أبناءها كما حدث لرجاء بنت الملاح شريط وثائقي جميل للمخرج عبد الإله الجوهري (2015 ) رجاء التي انتسبت إلى حيها الملاح، مكانها الذي تسكنه اعتقادا منها أنها بين أحضان دافئة، لتجد نفسها في الشارع، وفوق هذا تحرم من حقها كممثلة في دخول مهرجان سينمائي بسبب الفقر والفاقة، مع أنه كان مفترض لها أن تكون ضيفة فوق العادة وشخصية فوق العادة، باعتبارها متحصلة على جائزة أفضل ممثلة في فيلم يعرض لحظة مرورها أمام أفيش فيلمها، ولكنها تقابل بإستخفاف وحقارة من طرف المنظمين في ألم شعري يقول الدكتور حبيب ناصري : ((وهاهي رجاء بنت الملاح تسكن غرفة متآكلة بحي الملاح، والذي سبق وأن تساقط جزء من سقفه وتحولت جائزتها/ ذاكرتها السينمائية العالمية إلى ركام غرفة متاكلة مما يوحي فعلا بأنه تآكل عليها مجتمعها)).
ويأتي فيلم "مسافة ميل بحذائي" (2015) لسعيد خلاف الذي يظهر عنف المدينة المغربية وصمود البطل، من خلال الشاب ( أمين الناجي) الذي وجد نفسه لظروف اجتماعية يواجه عنف الشارع وسط أوحال الجريمة والانحراف، لكنه يتحدى كل ذلك للعيش بكرامة ونزاهة خارج أوكار الجريمة والانحراف في المدينة المغربية و فيلم الفروج” للمخرج عبد الله فركوس (2015) فضاءات مختلفة بالمدينة الحمراء، يروي يوميات رجل مراكشي يصطدم باختلاف عادات وتقاليد جاره الأجنبي. لياتي نهار العيد فيلم قصير لرشيد الوالي 2016 يخاطب ذاكرة الفرد وعقله من خلال إحالته إلى ظاهرة حساسة تتعلق بوضع بعض الأبناء لآبائهم في دور العجزة ، عبر قالب سينمائي يجمع بين الواقع المر والإحساس بضرورة العناية الاجتماعية والصحية والنفسية بالآباء المسنين.
ملاحظة: للموضوع مراجع