سينما خيري بشارة.. رؤية نقدية (1-2)
نادر رفاعي
يعد المخرج السينمائي الكبير خيري بشارة أحد أهم المبدعين المصريين، والذين ينتمون إلى جيل الواقعية الجديدة، ويفسر كاتب السيناريو " رؤوف توفيق " مصطلح الواقعية الجديدة بقوله " مع بدايات عقد الثمانينات بدأت ملامح الواقعية الجديدة في السنيما المصرية. هذه الواقعية نجومها وابطالها من الشباب الذين عاصروا الظروف الصعبة التي مر بها المجتمع المصري في الصراع الدائر بين مفاهيم الشرف والاخلاق والعمل والاحلام والطموح المشروع. وبين مفاهيم التجار والسماسرة والذين استفادوا من قوانين الانفتاح الاقتصادي ففرضوا كابوسا ثقيلاً من اهتزاز القيم والثراء الفاحش السريع واخلاق القنص والانتهازية ".
وتشير الناقدة الدكتورة " سلمى مبارك " إلى استخدام مخرجي الواقعية الجديدة " لغة سينمائية أكثر رهافة وأكثر تخففا من قيود الحدوتة والتقاليد الحكائية، لغة تسعى كي لا تكون مجرد وسيط يحمل أفكارا وقصصا، بل وجودا جماليا له خصوصيته ولا أقول استقلاله لأن السينما الجديدة في هذه الفترة لم تنقلب على المحتوى كما حدث في الموجات الجديدة في السينما الأوروبية، بل ظلت سينما ملتزمة بالهم المجتمعي في امتزاجه بأزمات الفرد، راصدة له وإن تخلت عن تقديم الحلول. ومن ثم فأنها وظفت لغتها السينمائية الجديدة بأشكال متعددة للتعبير عن هذا الواقع، أحيانا بشكل "واقعي جديد"، وأحيانا بشكل يحمل قدرا من السخرية والفنتازيا، وأحيانا أخرى بشكل فلسفي أو ميتافيزيقي ".
وحول علاقة خيري بشارة بالسينما التسجيلية، يوضح "حسن حداد" أن اسم خيري بشارة يعد من الأسماء اللامعة في سماء السينما التسجيلية خلال السبعينات، تخرج من المعهد العالي للسينما عام،1967 وعمل مساعداً للمخرج عباس كامل في فيلم (أنا الدكتورـ1967) ومع المخرج توفيق صالح في فيلم (يوميات نائب في الأرياف ـ1969). ثم سافر في بعثة تدريبية إلى بولندا لمدة عام ونصف وعمل هناك مساعداً للإخراج في فيلم (في الصحراء والأحراش). وبعد عودته من بولندا عمل في السينما التسجيلية، فأخرج عدداً من الأفلام التسجيلية الهامة مثل: (صائد الدبابات ـ 1974) و(طبيب في الأرياف ـ 1975) و(طائر النورس ـ 1977) و(تنوير ـ 1978)، والتي حصلت على تقدير نقدي وجوائز في المهرجانات المحلية ".
وبعد أن قدم فيلمه الأول " الأقدار الدامية " المأخوذ عن مسرحية " الحداد يليق بإلكترا "، قرر " بشارة " القفز خطوة أبعد من هذا العمل، وذلك من خلال فيلمه (العوامة رقم 70)، ويشير الناقد السينمائي سمير فريد: إلى أنه "إذا كان فيلم "العزيمة" الذي أخرجه كمال سليم عام 1939 هو بداية الواقعية المصرية في السينما، فأن "العوامة 70" إخراج خيري بشارة" عام 1982 هو بداية الواقعية الجديدة، ذلك أن سينما خيري بشارة ـ كما تبدو من الفيلم ـ هي حاصل جمع شادي عبدالسلام و يوسف شاهين معا، وهما أكبر من جددوا السينما المصرية في السبعينات … أخذ خيري من شادي، القدرة علي التخلص الكامل من مواصفات السينما السائدة، وأخذ من شاهين، شجاعة التعبير عن الذات، وعدم خشية التأثر بالسينما العالمية".
والمتأمل لفيلم بشارة يري بعضا من ملامح وعلامات سينما الواقعية الجديدة الايطالية، التي تمثلت في: التصوير في أماكن حقيقية خارج الاستوديوهات لمعظم مشاهد الفيلم، المزج في السرد السينمائي بين الأسلوبين: الروائي والتسجيلي، يضاف إلى ذلك موضوع الفيلم ذاته الذي استمده كاتبه فايز غالي … موضوع من قلب الحياة الاجتماعية الواقعية المصرية الخالصة، وتناول شخصيات من دم ولحم المجتمع … أحداث بعيدة عن اليوتوبيا وفخامة القصور والطبقات الراقية ". ويتفق " رؤوف توفيق " مع الرأي السابق بقوله فيلم "العوامة رقم 70" جرعة مكثفة من المشاعر.. تقتحم المتفرج، هادرة، متدفقة.. لتضعه على نفس الأرض التي يتحرك عليها أبطال الفيلم.. فكل شيء صور في أماكنه الطبيعية.. وبكاميرا حساسة واعية لا تفسد الواقع بالإضاءة الصناعية.. وإنما يشع كل مكان بالضوء الحقيقي له.. وبعد دقائق من عرض الفيلم تكاد تنسى أنك في قاعة عرض تشاهد فيلماً.. وإنما ينتابك هذا الإحساس بأنك جزء مما تراه.. فهذه الهموم والتساؤلات.. وهذا القلق، والرغبة في الفرار، ثم الرغبة في الاقتحام.. وهذا اليأس والإصرار.. هي مشاعر حقيقية ربما انتابتك يوماً.. أو أحسستها في صديق أو قريب!
ويذكر الناقد السينمائي " أحمد شوقي " إلى أن فيلم "العوامة 70" امتاز بالجرأة التي تصل لحد تحطيم التابو في اختيارين تأسيسيين " الأول هو تقديم المخرج لعمل يمكن أن يندرج تحت وصف السيرة الذاتية، وهي نوعية بخلاف كونها غير مألوفة في السينما المصرية، فمن المستغرب جدا أن يقدمها مخرج لم يكن قد تجاوز عامه الثلاثين سوى بعامين أو ثلاثة. الاختيار الثاني وهو الأهم، هو التخلي الكامل عن التراث السردي للسينما المصرية، والذي دار اللهم في استثناءات نادرة في مساحة ما تقع بين المسرح والحكي الشعبي، مساحة يعمل التعامل معها بصريا بجودة أو برداءة ولكن اللغة السينمائية تظل في الحالتين وسيلة تحمل الحكاية لتوصلها للمشاهد. فإذا اعتبرنا أن معظم محاولات التجديد قبل "العوامة 70" كانت تزيينا لهذه العربة الناقلة للحكاية، فإن خيري بشارة عمل في فيلمه الأيقوني على اكتشاف الخصائص المميزة للعربة التي ظلت عقودا ضحية إما للجهل أو التجاهل ".