عن ثنائية القهر/التمرد في أفلام المخرج عاطف الطيب (3-6)
حسن حداد
ثالثا : الزمن
لقد اختار عاطف الطيب زمناً محدداً لغالبية أفلامه، وهو الفترة الممتدة منذ مطلع عصر الانفتاح وحتى الوقت الحاضر، أي منذ منتصف السبعينات وحتى مطلع التسعينات. فقد ناقش الطيب مجموعة من المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي أفرزتها مرحلة الانفتاح والفترة ما بعد الانفتاح، والتي طرأت بشكل مفاجئ على المجتمع المصري وغيرت في كثير من القيم والأخلاقيات العامة.
ولا نعتقد بأن التدليل على هذا الزمن في تجربة عاطف الطيب سيكون صعباً، فغالبية أفلامه توحي بهذا الزمن، إما بشكل مباشر أو غير مباشر. فالتفكك الأسري والتفسخ الأخلاقي للمجتمع في فيلم (سواق الأتوبيس) جاء نتيجة ذلك التغيير المفاجئ في العلاقات الاجتماعية لعصر الانفتاح، حيث أوحت شخصيات الفيلم بذلك.
ومشاكل الشباب المصري من الطبقة المتوسطة والتي طرحت في فيلم (الحب فوق هضبة الهرم)، لم تبرز بهذا الشكل إلا في مرحلة الانفتاح وما بعده. والتصرفات غير المسئولة لبعض رموز السلطة في فيلم (ملف في الآداب)، كان المعني بها زمن الانفتاح، حيث تفسخ القيم الأخلاقية والمحسوبية. هذا إضافة إلى أن فيلم (ضربة معلم) يشير بأن مرحلة الانفتاح قد شهدت سيادة الخارجين على القانون والتحايل عليه وانتشار الفساد والدفاع عنه. أما فيلم (كتيبة الإعدام) فهو يعلن صراحة بأن السوبر ماركت ما جاءت إلا بعد الخيانة الكبرى في حرب أكتوبر 73.
كذلك الإشارة إلى مكاتب توظيف الأيدي العاملة في الخارج في فيلم (الهروب)، تشي بأن الفيلم يحكي عن مرحلة الانفتاح، حيث انتشرت الهجرة إلى الخارج في هذه الفترة بالذات. كما أن مرافعة المحامي في المحكمة في فيلم (ضد الحكومة) تشير صراحة عن فترة الفيلم، وهي ما بعد عصر الرئيس السادات.
وصحيح بأن فيلمي (الزمار) و(البريء) لم يشيرا صراحة بالزمان، حيث الزمان مسكوت عنه في الفيلمين، إلا أن ذلك قد جاء إما لاعتبارات فكرية، أو لظروف رقابية بحتة. أما فيلمي (قلب الليل) و(ناجي العلي) فالزمن فيهما يتبع زمن الرواية أو يتبع السيرة الذاتية، المأخوذ عنهما الفيلمين.
بعد هذا العرض لبيان الزمن في أفلام الطيب، لا بد أن يرد هذا التساؤل.. لماذا اختار عاطف الطيب هذا الزمن بالذات في غالبية أفلامه؟ وللإجابة على هكذا تساؤل، لا بد من التأكيد على أن كافة الموضوعات والأفكار والأطروحات التي حملتها أفلام عاطف الطيب، تمثل وجهة نظر شخصية للمخرج، أي إنه يتبناها ويؤمن بها تماماً.
فهو مثلاً، في أحد أحاديثه الصحفية، يؤكد هذا التصور، بل ويسهب في الحديث، عندما يتذكر إحدى لقاءاته الجماعية مع صديقيه المخرج محمد خان والسيناريست بشير الديك، في مقهى في وسط مدينة القاهرة، في أوائل الثمانينات، حيث كان الحديث عن السينما والسياسة والحياة. يتحدث عاطف الطيب، فيقول: (…لا أستطيع القول بأن أحلامنا وأفكارنا ساعتها كانت واضحة أبداً، كانت مجرد إرهاصات، تنبؤات، آمال.. كنا نستبصر الدنيا، ونحن نسعى لشمول ثقافي، لا يعني القراءة فقط، ولكن الحياة مع مختلف الشرائح، فهم مجريات الأمور، الاحتكاك بالواقع، ملازمة التجارب.. والقراءة أيضاً.
كان سؤالنا ـ المر ـ كيف استطاع السادات في عشر سنوات أن «يشخبط» إنجازات عبد الناصر، رغم الجماهيرية الواسعة التي كانت تحيط بناصر وإنجازاته، رغم انحيازه للناس والفقراء، كيف تمكن السادات من كل هذه «الردة»، والرجل لم تمر ذكراه الخامسة بعد!! كان يعني ذلك ـ لدينا وقتها ـ أمرين: الأول، أن خطأً ما شاب تجربة ناصر، علينا أن نعرفه وندركه. والثاني، أنه لا بد من مواجهة ما يحدث ـ فناً بالطبع ـ وطرح حل واضح كحد أدنى، وهو بث الهمة. قد تسأل، هل كانت هذه نظرية موجودة على مائدتنا في المقهى.. لا بالتأكيد.. كل هذا أذكره الآن من أطراف الأحاديث والذكريات والمحاورات.. لم يطرح هكذا بوضوح ولم يعلن بقوة، لكن هل تتصور، بأننا قد طرحناه كما قلته بالضبط في الأفلام…).
وهذا ما يفسر ثبات الزمن ـ إلى حد كبير ـ في غالبية أفلام الطيب، إذ أراد بذلك أن تكون أفلامه شاهداً على هذه المرحلة الزمنية بالذات.