الدراما الرمضانية العربية: عودة قوية للمسلسلات السورية
عبد الكريم واكريم
كالعادة وككل رمضان تشهد شاشات الفضائيات العربية ازدحاما في عرض المسلسلات الدرامية، وقد شهدت هذه السنة عودة ظاهرة للعيان للدراما السورية، ليس من ناحية الكم فقط بل من جانب الجودة الفنية.
الدراما السورية..العودة المختلفة
جاءت الدراما السورية هذا العام مفاجئة بشكل إيجابي لمنتظري الأعمال التلفزية الجيدة والمختلفة، فرغم كون هذه الدراما قد صنعت لنفسها مسارا متميزا منذ التسعينيات من القرن الماضي بحيث استطاعت منافسة الدراما المصرية، إلا أن الأوضاع الداخلية في سوريا جعلتها تتراجع بشكل ملحوظ بعد ذلك، خصوصا من ناحية الكم محافظة في أغلب الأحيان على جودتها الفنية. وهاهي الآن تسترجع بعضا من عافيتها مرة أخرى.
وهكذا فقد شهد رمضان المنصرم عرض مسلسلات سورية شَكَّلت الاختلاف الإيجابي على خارطة الدراما العربية، والتي سنستعرض بعضها في هذا المقال.
"ترجمان الأشواق"..سوريا على فوهة بركان
يتناول مسلسل "ترجمان الأشواق" الأوضاع الحالية في سوريا بشكل فني وجمالي متُمَيِّز، بحيث نتابع فيه شخصية نجيب المعتقل السياسي اليساري السابق والهارب من البلد منذ عشرين سنة ليستقر في أمريكا ويشتغل هناك كمترجم للكتب والدراسات والأعمال الأدبية للعربية، لكن خبر اختفاء ابنته الشابة يجعله يُقرِّر العودة لسوريا رغم مايحتمله ذلك من مخاطر القبض عليه وإيداعه السجن.
وحينما يصل إلى سوريا يعلم أن الدولة لم تعد متخوفة بشكل كبير من اليساريين الذي ينتمي إليهم، لكن الأجهزة الأمنية ظلت رغم ذلك تراقب تحركات نجيب باستمرار هو وصديقا عمره صاحب المكتبة المسيحي اليساري الراديكالي الذي وقف به الزمن مع بدايات تسعينيات القرن الماضي، والذي يقضي نهاراته بالمكتبة ولياليه في الملهى الليلي رفقة صاحبته الراقصة، ثم الصديق الآخر لنجيب الطبيب المثقف الذي تحَوَّلَ من اليسار الراديكالي إلى الطريقة الصوفية محافظا رغم ذلك على جانبه الإنساني، وأصبح يساعد على تبادل الأسرى بين الجهات المتصارعة، التي نال احترامها، وذلك كعمل إنساني لايرجو منه مقابلا ماديا.
يتميز هذا المسلسل كونه مكتوبا بشكل جيد، بحيث نشعر ونحن نتابعه وكأننا أمام شخصيات من لحم ودم تتألم وتغضب وتُقاسي، وتقتنص أيضا بضع لحظات من السعادة الهاربة رغم كل شيء، في أجواء الحرب الصعبة والمدمرة.
تنساب الأحداث في المسلسل بشكل درامي سلس وغير متكلف وذلك في بِضع مسارات يقبض الإخراج الجيد بتلابيبها، وبأسلوب يقترب مما هو سينمائي يمتزج فيه التخييلي بالوثائقي، يمنحنا خلاله المخرج تفاصيل تُضفي على المشهد العام للمسلسل نوعا من المصداقية لا نجدها بهذا الشكل المتكامل والمنسجم سوى في أعمال درامية عربية قليلة كل سنة.
وإن لم يكن هنالك سوى مشاهد مثل ذلك المشهد الذي تحترق فيه كتب نجيب اليسارية، التي رمتها أمه للنار معتبرة إياها سبب ما ألَمَّ به من خطوب وأهوال في حياته، مزجها المخرج في مونتاج متواز بلقطات للراقصة صاحبة صديق نجيب اليساري المسيحي، وهي ترقص بالملهى الليلي على إيقاع دقات الطبلة، ليُوصل المخرج رسالته المشفرة من خلال صور منتقاة بعناية تُغنِي عن ألف كلمة، ليستحق عليها المسلسل، مع بِضع مشاهد أخرى مماثلة، تميزه وتَفرُّده عن باقي ما عُرض في رمضان.
"عندما تشيخ الذئاب".. من يتحمل مسؤولية ماوقع ؟!
تدور أحداث مسلسل "عندما تشيخ الذئاب" على الخليفة التاريخية لأحداث غزو العراق بعد دخولها للكويت، هذه الأحداث التي تَرٍدُ على لسان الشخصيات وأثناء حديثهم لكننا لا نراها لا عبر شاشات التلفزة ولا نسمعها من خلال القنوات الإذاعية، وربما هذه هي نقطة الضعف الوحيدة في المسلسل، الذي نتابع خلاله مسارات متشابكة لشخصيات تربطها إما علاقات عائلية أو صداقات تَصَدَّعت بحكم الزمن بسبب تجاذُبات السياسة والأهواء الشخصية والمصالح الذاتية.
وكما في المسلسل السابق نجد هنا شخصيتين رئيسيتين أحدُهما يساري وسجين سياسي سابق اتهمه رفاقه بكونه خانهم مقابل إطلاق سراحه، الأمر الذي تَسبَّب في طرده من الحزب الذي كان ينتمي إليه، والثاني شيخ صوفي محبوب من طرف سكان الحي نقطة ضعفه الوحيدة هي النساء اللواتي لايستطيع صبرا عليهن، بحيث يُكثر من زيجاته ومغامراته التي يجد لها تبريرا شرعيا لا يناقض الدين، هاتان الشخصيتان اللتان كانت تجمعهما صداقة في الماضي أصبحتا متنابذتين في الحاضر بحكم إيديولوجيتيهما المتناقضتين والمتباعدتين والمتنافرتين.
وفي المقابل لهما هنالك صديق ثالث سكير سليط اللسان حارب الإسرائيليين في لبنان ولا يكترث لِأي منهما ويعتبرهما خائنين لمبادئهما السابقة، ثم أخت جبران التي تعيش سجينة أوهام الماضي حينما كانت أسرتها أغنى أسرة في الحي، لدرجة أن رَبَّت في ابنها الشاب عقدة النرجسية المفرطة وحب الذات الزائد بحيث أصبح يعتبر مصلحته الشخصية فوق كل اعتبار، حتى لو كان ذلك على حساب كرامة أبيه.
يضعنا المسلسل في خضم السنوات الأولى لبدء السيطرة الحقيقية للحركات الدينية المتشددة على المجتمع السوري وكَسبِها الأرض على حساب الإيديولوجيات اليسارية والقومية وعلى حساب سطوة النظام، فيما يحاول هذا الأخير اختراقها واحتواءها قبل فوات الأوان.
كما في مسلسل "ترجمان الأشواق" نجد أن الشخصيات في "عندما تشيخ الذئاب" مكتوبة بعناية ومستوحاة من صميم الواقع الذي تستمد منه شرعيتها، وقد زاد من مصداقيتها ذلك الأداء المتميز لأغلب الممثلين، وهنا يجب التنويه بالأداء اللافت للفنان سلوم حداد في تقمصه وتشخيصه لشخصية الشيخ الصوفي بحيث لا نملك أن نحكم عليه كمشاهدين رغم تذبذبه بين إيمان يبدو صادقا وضعف إنساني لايملك إلا أن يستسلم له أمام إغراءات المادة وشهوات الجسد، إذ استطاع حداد الوصول لعمق الشخصية وتقلباتها وبعدها الإنساني. وما المشهد الذي ينسجم فيه مع أداء أم كلثوم لأغنية دينية إلى حَدِّ الخشوع والبكاء وهو يُرَدِّد مقاطع منها معها، ثم دخول معاونه المتشدد الذي يلومه على الغناء وكيف يَرُدُّ عليه الشيخ بعد ذلك، سوى واحدة من المشاهد الجميلة في هذا المسلسل.
الاشتغال على الشخوص لايقف عند هذا الحد بل يتعداه لذلك الجانب الهَشِّ في الشخصيات الإنسانية، التي تُصبح فيها القوة والضعف وجهان لعملة واحدة كما هي شخصية "الجليلة" (أدَّتها بتفوق الفنانة سمر سامي) أخت جبران التي نراها في قمة انهيارها وضعفها وخوفها ومرضها النفسي وعدم تَقبُّلها لتقلبات الدهر التي نزلت بها وبعائلتها من القمة إلى قاع المجتمع لا تتوانى عن حضور الأفراح والمآتم ومؤازرة أهل الحارة في الشدة، والفرح معهم في الأعراس ومساندتهم وإسداء النصح للنساء والشابات، بحيث تنال احترام أهل الحارة وتحافظ على حبهم لها وهيبتها بينهم رغم ذهاب الجاه والمال.
مسلسلات أخرى.. رومانسية وهروب من الواقع
مسلسلان سوريان آخران تميَّزا خلال رمضان المنصرم ، "أثر الفراشة" المقتبس بتصرف عن الرواية الشهيرة لغابرييل غارسيا ماركيز "الحب في زمن الكوليرا"، و"عن الهوى والجوى" المُكوّن من سداسيات اجتماعية رومانسية تترصد العلاقات العاطفية والاجتماعية في مجتمع سوري، الذي رغم كونه يعاني كثيرا مازال للعواطف والمشاعر مكان في قلوب أفراده.