أكثر من رأفت الميهي (1-6)
يشعر من يتتبع مسيرة فنان السينما الكبير رأفت الميهي بأن هناك أكثر من سينمائي مصري يحملون نفس الاسم، ليس فقط لتعدد "الأدوار" التي قام بها في تاريخ السينما المصرية، كسيناريست ومخرج ومنتج وأستاذ أكاديمي، ولكن أيضا لتعدد التحولات الحادة في مسيرته والأنواع السينمائية التي قدمها، وتنوع الأساليب التي استخدمها، سواء ككاتب للنص السينمائي أو كمنفذ له برؤية شديدة الخصوصية وروح ساخرة لم تفارق معظم أعماله، وإن كانت تحمل قدرا كبيرا من المرارة.
رأفت الميهي، المولود في 25 سبتمبر 1940، ينتمي إلى جيل من المثقفين المصريين تفتح وعيه على ثورة يوليو 1952، وتربى على قيمها ومبادئها، وعاش انتصاراتها وانكساراتها، وصدمته نكستها في يونيو 1967، ولم يكد يستعيد توازنه بعد انتصار أكتوبر 1973 حتى أصابه الإحباط والحيرة مع تطبيق سياسة الانفتاح الاقتصادي في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، بكل ما رافقه من فساد اقتصادي واجتماعي وسياسي، وبكل ما تسبب فيه من زيادة نسبة الفقر، واتساع الهوة بين الفقراء والأغنياء، وتلاشي مفهوم العدالة الاجتماعية، ربما إلى يومنا هذا.
بدأ مشواره عام 1966 بكتابة السيناريو، حين كان شابا في السادسة والعشرين، وفي هذه المرحلة المبكرة كانت أعماله تعبيرا سينمائيا بليغا عن التحولات والتطورات الوطنية الحادة والمتلاحقة، في فترة "درامية" بامتياز من تاريخ مصر، هوت من ذروة وفورة الحلم القومي السعيد، بعد انتصار واستقرار ثورة 1952، إلى سفح ومستنقع النكسة، وبمعنى أدق: الهزيمة.. ومن قمة الشعور بالفخر الوطني بعد انتصار 1973، إلى حضيض فساد الانفتاح، الذي وصفه الكاتب الكبير الراحل أحمد بهاء الدين بأنه "سداح مداح".
ويمكن اعتبار الفترة من 1966 إلى 1975 المرحلة الأولى من مسيرة رأفت الميهي، حين كان القلم الأمين المعبر عن هذه التحولات الدرامية، والعين التي رصدت تلك المتغيرات المصرية المتلاحقة خلال فترة قصيرة من الزمن، بوعي المثقف اليساري الذي يشعر بأن من واجبه تصفية حساب وطنه – وحساب جيله وحسابه هو شخصيا – مع فترة ما قبل ثورة 1952، ومع هزيمة 1967، ومع سياسة الانفتاح الاقتصادي وغيرها.
خلال تلك الفترة، كتب الميهي السيناريو والحوار، أو قام بالتأليف الكامل، لمجموعة من الأفلام المهمة التي دخل بعضها تاريخ السينما المصرية، ومنها "غروب وشروق" (1970)، و"شيء في صدري" (1971)، و"على من نطلق الرصاص" (1975)، وكلها من إخراج الكبير كمال الشيخ، الذي كوّن مع الميهي خلال هذه الفترة ثنائيا لا ينسى كان بمثابة ضمير سينمائي للوطن.
وفي هذه المجموعة من الأفلام، اعتنى الميهي بالحوار، وحوله في بعض الأحيان إلى محاكمات حقيقية لعهود أو أشخاص، من دون مضايقة المشاهد بالتعبيرات الإنشائية أو الشعارات الجوفاء، ومن دون إصابته بالملل.. وفيها أيضا اتبع طرقا في السرد مختلفة عما كان سائدا في السينما المصرية في ذلك الوقت، أبرزها في رأيي التوظيف الجيد لأسلوب العودة إلى الماضي (الفلاش باك)، بطريقة تجعل منه جزءا لا يتجزأ من البناء الدرامي، وليس زائدة يمكن الاستغناء عنها ببعض الجمل الحوارية، كما هي الحال في العديد من الأفلام السابقة واللاحقة.
وتميز أسلوبه في كتابة السيناريو خلال تلك الفترة أيضا باستخدام الإسقاطات والرموز الفنية، لكن بطريقة غير مباشرة تبتعد عن الفجاجة التي استخدم بها غيره الرموز خلال نفس الفترة وفي فترة سابقة عليها.
وعلى سبيل المثال، في المشهد الأخير من تحفة الشيخ والميهي "غروب وشروق"، تقف البطلة المستهترة التي تدفع ثمن استهتارها غالياً في عهد ما قبل الثورة (سعاد حسني) في النافذة وتزيح الستار قليلاً لكي تتابع – بعينين مبتلتين بالدموع – زوجها وصديقه (رشدي أباظة وصلاح ذو الفقار) وهما يغادران حديقة القصر بعد نهاية والدها رئيس القلم السياسي (محمود المليجي) وتدمير حياتها هي بالكامل.. عيناها تلخصان المأساة كلها من دون كلمة واحدة.. بعد خروجهما، تسحب يدها لينسدل الستار بسرعة على حياتها وعلى الفيلم كله.
هذه اللقطة البارعة لا تنهي المشهد أو الفيلم فقط، بل تنهي عصرا كاملا وتعلن بداية عصر جديد بشكل سينمائي بليغ وغير مباشر، شأن العديد من اللقطات والمشاهد الأخرى في سيناريوهات رأفت الميهي.
وفي "شيء في صدري"، صراع درامي نادر بين "الباشا" الفاسد عديم الأخلاق (رشدي أباظة)، و"الأفندي" رمز الشرف والاستقامة (شكري سرحان)، وتعود خصوصية الصراع إلى عدم وجود الأفندي أصلا، حيث يموت تاركا طيفه يطارد الباشا ليلا ونهارا، ويحول حياته إلى جحيم، مما يحول بدوره الميلودراما التقليدية المعهودة في مثل تلك القوالب إلى ما يشبه الدراما النفسية شديدة التعقيد، والتي تتطلب في كتابتها قدرا كبيرا من الوعي والمهارة والموهبة.
في الفيلمين السابق ذكرهما، أعد الميهي السيناريو والحوار عن أصلين أدبيين لجمال حماد وإحسان عبد القدوس على الترتيب، أما في الفيلم الثالث الذي يجب التوقف عنده، "على من نطلق الرصاص"، فكتب القصة والسيناريو والحوار، للتعبير عما يمكن تسميته "أزمة جيل النكسة" من شباب المثقفين، الذين أصابتهم الهزيمة بالإحباط واليأس والحيرة، وخرجوا – أثناء دراستهم الجامعية أو بعد انخراطهم في سوق العمل – في مظاهرات للمطالبة بالحقوق السياسية ومحاسبة المسئولين عن الهزيمة العسكرية، ثم صدمتهم – بعد سنوات قليلة – سياسة الانفتاح الاقتصادي وتداعياتها.
من هؤلاء "مصطفى" (محمود ياسين)، الذي اعتقل مرتين عامي 1964 و1967 لمشاركته في مظاهرات تطالب بالمزيد من الحريات وتقديم المسئولين الحقيقيين عن النكسة للمحاكمة وإعادة جميع الأحزاب بما فيها الحزب الشيوعي، وخضع للعلاج النفسي بعد إصابته بمرض عصبي إثر تعذيبه في المعتقل.. ولدينا صديقه المهندس "سامي" (مجدي وهبه)، الذي تلفق له تهمة التسبب في سقوط مشروع للإسكان الشعبي ويسجن ثم يتم قتله في السجن بالسم.
ينتمي "على من نطلق الرصاص" إلى نوعية "الفيلم نوار" أو القاتم، ويشهد تطبيقا مبكرا لمبدأ "الحل الفردي"، حيث يطلق "مصطفى" الرصاص على "رشدي"، رئيس شركة الإسكان (جميل راتب)، انتقاما لصديقه الذي قتله "رشدي" وتزوج خطيبته "تهاني" (سعاد حسني).. ويقدم الميهي في الفيلم مصيرا قاتما بدوره لجيل الهزيمة، حيث يموت "مصطفى" – كما مات صديقه – بعد أن صدمته سيارة أثناء هروبه من مسرح إطلاق الرصاص على "رشدي"، وتنهار حياة "تهاني" بالكامل بعد اكتشافها حقيقة زوجها الذي تحول من مجني عليه في واقعة إطلاق الرصاص إلى جان في جريمتي قتل "سامي" والغش في بناء المساكن الشعبية.
رسالة الفيلم شديدة الوضوح، وتصلح لكل زمان ومكان، وهي أنه يجب إطلاق الرصاص على "القطط السمان" من مصاصي دماء الشعوب، وليس على المجني عليهم من أبناء هذه الشعوب.. ويكشف الفيلم عن رؤية ثاقبة لرأفت الميهي تتجاوز حدود تصفية الحساب مع الماضي وتحليل الحاضر إلى استشراف المستقبل، وتتجلى في صرخة أطلقتها "تهاني" (سعاد حسني) في النهاية بعد أن اكتشفت الحقيقة: "الناس دي كلها ماتت ليه.. ماتت ليه.. الناس دي كلها بتموت ليه؟"، وكأنها صرخة يتم إطلاقها على خلفية ما تشهده مصر هذه الأيام.
ينهي "على من نطلق الرصاص" المرحلة الأولى من مسيرة رأفت الميهي، والتي أدلى فيها بشهادته عن فترة حرجة من تاريخ مصر، ثم توقف ليلتقط الأنفاس ويعيد الحسابات وترتيب الأوراق، حيث لم يقدم أي عمل سينمائي من 1975 إلى 1981.. وعندما عاد، كان كل شيء قد تغير، سواء على المستوى الوطني أو على مستواه هو شخصيا، ومستوى قناعاته الفكرية والفنية.