الجوكر.. عندما تتعاطف مع المجرم
عبد الكريم واكريم
خرجتُ من فيلم "جوكر" بعد أن شاهدته في القاعة الكبرى لسينماتيك طنجة (سينما الريف) وأنا في حالة غريبة قليلا ما يُدخلني فيها فيلم، تلك الحالة التي لم تحصل لي منذ مدة طويلة، وظللت غير راغب أو على الأصح غير قادر على الكتابة عنه ولا قراءة أي شيء حوله منذ انهمار الكم الهائل من "المقالات" من طرف نقاد مكرسين وآخرين هواة وسينفيلييين ومدونيين فيسبوكيين. شعرت ساعتها بنوع من العجز عن الكتابة لم يعد يعتريني منذ مدة طويلة كوني أصبحت أظن نفسي ناقدا محترفا يمكن له أن يكتب متى أراد ذلك ولم يعد خاضعا للأهواء التي تعتريه وأصبح متمكنا ومتحكما في توقيت الكتابة لديه وساعتها.
لكن وبعد مرور أربعة أيام على مشاهدتي للفيلم وقد استطعت أن أخلق مسافة بيني وبينه ها أنذا أخط هاته الملاحظات والانطباعات عنه وحوله.
"جوكر" فيلم من بين تلك الأفلام التي كُتبت بشكل جيد وهو فيلم شخصية وقد استطاع واكين فونيكس أن يحمل الفيلم على أكتافه بشكل لا يُتصور، إذ لايمكن لنا أن نتخيل ونحن نشاهد الفيلم ممثلا آخر في مكانه وبنفس قدرته على تقمص هذه الشخصية المهزومة والذي يلعب بها القدر ألعوبته القذرة.
"جوكر" ليس قاتلا بالفطرة بل إنَّ كل الظروف القاسية المحيطة به تكاتفت لتجعله كذلك، وهو لايخطط لجرائمه أبدا بل يجد نفسه مضطرا ليرتكبها.
منذ البدء تتالى الضربات القاسية عليه هو البريء الذي لانملك إلا أن نتعاطف معه، بل ومع مرور لحظات الفيلم نجد تبريرات للبشاعات التي يرتكبها، وهنا منبع الحالة الغير مرتاحة التي يتعمد المخرج أن يضعنا فيها كمشاهدين، إذ ونحن نتعاطف مع الجوكر نعلم في نفس الوقت أن مايفعله ليس أمرا سليما ولا مبررا، وهكذا وكلما اقتربت نهاية الفيلم وازدادت حالته تأزما ازداد إحساس التأزم لدينا أيضا كمشاهدين وكأننا نشاركه بتعاطفنا جرائمه.
"جوكر " شخصية دوفستوفسكية بامتياز، إذ تحمل خصوصيات شخوص الروائي الكبير ولها قرابة دم معها، فيه شيء من بطل "الجريمة والعقاب" راسكولنيكوف، وفيه أيضا من الشخصية الرئيسية لرواية "القبو" لنفس الروائي الكبير، وكثيرا من تلك الروايات التي تجعلنا نتعاطف مع شخوصها ونبرر مايفعلونه ويرتكبونه رغم أننا نعلم علم اليقين أن ذلك ليس أخلاقيا بالمرة وأنها شخوص مريضة ومهزوز نفسيا.
يلعب معنا المخرج تود فيليبس والسيناريست سكوت سيلفر بشكل جيد إذ يخفيان أشياء تتعلق بهلوسات الجوكر وتخيلاته واستيهاماته ليخرجاها كما يُخرج الساحر ألعابه من قبعته السحرية في الوقت والزمن الذي لاننتظر كمشاهدين، ليُربكانا ويُزعزعا قناعاتنا ويكسرا انتظاراتنا ويُردياها هباء في كثير من لحظات الفيلم، وهذا يقع أكثر من مرة بداية من قصة الحب الرومانسية البريئة التي تنطلق بعد أول عملية قتل نشاهدها كاملة يقوم بها الجوكر، لنعلم بعد ذلك أننا سرنا وراء سراب وأن قصة الحب مجرد وهم في ذهنه المريض وأن المرأة جارة عادية ستكون من بين ضحاياه بدورها بعد ذلك.
لكن ذكاء الكتابة والإخراج نأيا بِنا عن مشاهدة هذه الجريمة التي قد تجعل تعاطفنا معه يَقِلُّ أو ينتفي نهائيا، عكس الجرائم الأخرى التي شاهدناها والتي كانت "مبررة" وصورها لنا المخرج وكأنها دفاع عن النفس أو انتقام لكرامة مجروحة ونَفس جريحة مُهانة. وقد كانت الطريقة والأسلوب الذي جعلنا به المخرج نعرف أن كل ماشهدناه قبلا بخصوص العلاقة العاطفية للجوكر مع المرأة الشابة كان وهما وخيالا جد ذكية، وقد تمُر مرور الكرام لمن لم يكن جِدَّ مركز فيما يقع على الشاشة، وهنا يمكن لنا تذكر أفلام مثل الحاسة السادسة على سبيل المثال لكن بشكل جد سريع.
وفي نفس سياق اللعب الإخراجي الذكي والكتابة المطرزة بعناية، يجعلنا المخرج نتوهَّم مع اقتراب الفيلم إلى نهايته أن الجوكر يتهيأ للانتحار مباشرة على الملإ في البرنامج التلفزيوني للمنشط الكوميدي الشهير (يلعب دوره روبيرت دينيرو بشكل جد مقنع) ، لكن كل هذا ينقلب رأسا على عقب ليرتكب الجوكر واحدة من بين "أهم" جرائمه التي ستكرسه "بطلا شعبيا" سلبيا وتُلهب حماس محبيه ومريديه لِيُشعلوا على إثر ذلك مدينة "غوتام" لهيبا ويدخلوها في فوضى عارمة وعنف لايُبقي ولايذر، وقد صور المخرج كل هذا كثورة على نظام رأسمالي بشع لايمكن لِاستغلاله وظلمه سوى أن يُنتج مثل هذه الشخوص الغير سوية ويكون السبب في اندلاع ثورات وهبات لمقهورين مُهانين ومُهمشين. وهنا يكمن البعد الآخر للفيلم كونه فيلما سياسيا بامتياز، لكن دون خطب ولا شعارات زاعقة، هو فقط فيلم يُنذر بالكارثة ويتنبأ بها ويحذر منها بشكل فني غير مباشر ولا فج، إن ظلت الأوضاع على ماهي عليه.
يبقى الجدير ذكره أن شخصية المهمة والمؤثر جدا في أحداث الفيلم وفي تطور شخصية "جوكر" هي أمه التي سيقلب اكتشافه لكذبها المرضي كل كيانه وسيدفعه للمرور للسرعة القصوى في هذيانه وجنونه وجرائمه إلى درجة أن يقتلها هي أيضا في لحظة عتاب هذياني وهي مُسجاة على سرير المستشفى.
يمكننا الجزم أن المخرج قد نزل بمدينة "غوتام" الخارجة من الرسوم الكارتونيةB.D إلى مدينة واقعية تشبه نيويورك أو هي نيويورك ذاتها، وبـ"الجوكر" من شخصية كرتونية شريرة إلى إنسان من لحم ودم اضطرته الظروف السيئة والمُهينة لكرامة الإنسان كي يرتكب أفعالا لايقبلها المجتمع ويعتبرها شرا وخروجا على الأخلاق المتعارف عليها. وفي نفس الوقت تم الحفاظ على ذلك الزمن المبهم بحيث لايمكن لنا أن نُحدد زمن الأحداث ولا توقيتها بالضبط ليصلح الفيلم لكل زمان ومكان، وليظل فيلما سيعيش لسنوات طوال.