البابوان.. دراما سينمائية تحاكي السيمفونيات
حوار شديد الذكاء بلغة "البينج بونج" وأداء تمثيلي رفيع
الفيلم بمثابة صرخة شديدة العمق ضد التطرف
يثير قضايا فكرية وفلسفية مهمة.. ويصور تبدل قناعات الإنسان نتيجة تطوره الشخصي وخبراته الحياتية
علا الشافعي
لماذا البابوان The Two Popes.. هل فقط لجمال النص وعبقرية وتميز الأداء أم لما يحمله الفيلم من رسائل وما يثيره من قضايا فكرية وإنسانية أم عن الرحلة التي يخوضها الإنسان وتبدل قناعاته طبقا للظروف المحيطة به وتطوره الشخصي وخبراته الحياتية أم لحس الفكاهة والذي يبدو في الكثير من المشاهد والحوارات الذكية سواء الجمل الإنسانية أو تلك المتعلقة بقضايا فكرية خلافية أم لأن هذا الفيلم يأخذنا إلى المأزق الذي يعيشه العالم حاليا أم هل لأن الفيلم بمثابة صرخة شديدة العمق ضد التطرف الذي ندفع ثمنه إنسانيا أم هل لأننا أصبحنا في أمس الحاجة إلى إعادة تغيير الخطاب الديني وليس تحديثه رغم اختلاف العقيدة إلا أن الهم واحد؟.
أعتقد أن كل هذه الأسباب مجتمعة تقف وراء نجاح وتميز الفيلم والتي لا تجعلنا نتردد في مشاهدته مرارا وتكرارا رغم أن بطولته للممثل المخضرم أنتوني هوبكنز والنجم جوناثان برايس، وهما ليسا نجمي شباك أو شباب لهما شعبية جارفة، ولكن ممثلان مخضرمان يملكان موهبة متفردة.
فيلم "البابوان" هو أحد أهم إنتاجات منصة "نيتفليكس" والتي أطلقتها في نهاية العام الماضي، وبذلك ينضم إلى فيلم "الإيرلندي" لمارتن سكورسيزي، "وقصة زواج".
مع مشاهد قبل "التترات" لصوت البابا "خورخي بيرجوليو"، وهو يحاول حجز تذكرة طيران لنفسه، فتخبره الموظفة على الهاتف بأن اسمه يتشابه مع اسم البابا الجديد، وعندما تسأله عن العنوان يقول لها "الفاتيكان "، فتعتقد أنه يسخر منها فتغلق الهاتف، في مشهد ساخر ومليء بالعديد من المفارقات الكوميدية، وتبدأ الأحداث بعد وفاة بابا الفاتيكان يوحنا بولس الثاني عام 2005 حيث يتجه رؤساء الأساقفة من كل دول العالم لانتخاب بابا جديد للكنيسة الكاثوليكية في الفاتيكان التي تقع في قلب روما.
هناك نتعرف تفصيليا على طقوس والمراسم المتعلقة باختيار البابا، واصطفاف الملايين في انتظار نتيجة الانتخاب وتصويت الأساقفة، والذين يفشلون بعد الجولة الأولى في اختيار البابا الجديد حيث يتصاعد الدخان الأسود، ولكن مع الجولة الثانية نجد أن المنافسة تنحصر بين الألماني جوزيف راتزنجر والأرجنتيني خورخي بيرجوليو، اللذان يشكلان طرفي النقيض الأول وهما التيار المحافظ والذي يصر على الحفاظ على التقاليد الكنسية مهما كانت العواقب وهو تيار متزمت ومنغلق على نفسه ويرفض التطوير والتحديث، والثاني تيار يدعو إلى الإصلاح وضرورة البحث عن سبل جديدة للتواصل وإعادة من انصرف من شعب الكنيسة عنها، كان من الممكن أن يتحول السيناريو إلى شكل تقليدي في المعالجة، ومشاهد حوارية طويلة مليئة بالحجج أو بمعني أدق حجة أمام أخرى.
لكن فيلم "البابوان" نجا من فخ التقليدية من خلال سيناريو شديد التميز والذكاء للكاتب أنتوني مكارثي والذي اعتمد على أحداث حقيقية يعلمها الجميع وهي الأزمة التي ضربت الفاتيكان عام 2012 عندما تم القبض على سكرتير البابا بندكيت الـ16 بعد تسريبه وثائق سرية تؤكد على وجود مخالفات وارتكاب جرائم الاعتداء على الأطفال من قبل بعض الأساقفة، وهي الواقعة التي استغلها كاتب السيناريو وانطلق منها لبناء سيناريو شديد التركيب يكشف الكثير عن البطلين البابوين راتزنجر (بنيديكت الـ16) وبيرجوليو فرنسيس وحياتهما الشخصية وما يقومان به للكنيسة وكل بطريقته، وصولا إلى الفترة التي صاحبت استقالة البابا بنيديكت عام 2012 لأول مرة يستقيل فيها البابا منذ عهود و قرون سابقة، وتولي البابا الجديد.
السيناريو الذكي والكاشف للكثير من القضايا الفكرية والفلسفية حوله المخرج البرازيلي فيرناندو ميريليس إلى صورة لا تقل ذكاء وتكثيفا وحيوية بدءا من مشاهد المناظرة السريعة بين البابوين، بعد طلب البابا بنيديكت حضور الكاردينال بيرجوليو إلى روما، ومنها إلى منزل البابا الصيفي.
وهي المشاهد التي كشفت الكثير عن الشخصيتين البابا والذي يقاوم طوال الوقت إعجاب خفي بشخصية الكاردينال وآرائه الإصلاحية ويمنعه من إعلان ذلك صراحة شخصيته المحافظة شديدة التقليدية والكاردينال الذي لا هم له سوى اقتناص موافقة البابا على التقاعد، والذي يراه البابا تمردا مقصودا في وقت حرج للكنيسة، وهو المشهد المليء بالتفاصيل والحوار الذكي والشيق والذي يشبه لعبة البنج بونج كل منهما يرغب في تسجيل الهدف أولا وخصوصا وأن الاثنان على طرفي النقيض.
البابا الذي يعيش كل التفاصيل المستمدة من سلطته الحياة المرفهة الملابس الفاخرة، الطعام الصحي، أوقات التريض المنتظمة، في حين أن الكاردينال خورخي المتفتح والإصلاحي لا يتردد في الوقوف مع البستاني ومناقشته في أنواع المزروعات، وأن يرقص التانجو، ويشاهد مباراة كرة قدم لفريق سان لورينزو الذي يشجعه في مقهي، والسير على قدميه حاملا حقائبه، والوقوف لتناول البيتزا من الشارع.
تلك اللقطات والمشاهد كرست للتحولات التي شهدها النص السينمائي بعد ذلك حيث بدأ البابا بنيدكيت يشعر بالراحة في حضور الكاردينال، ونفس الحال الذي بدء فيه الكاردينال يري الجانب الإنساني في شخصية البابا الحوار هو الذي فتح بينهما تلك الأفق ومد جسورا من التواصل الإنساني.
ذكاء المخرج وحرفيته وتميز المونتاج خلق إيقاعا للفيلم بعيدا عن النقاشات الجافة وحس السخرية الذي يري به كل من البطلين نفسه، نحن طوال الوقت أمام شخصين يتبادلان الأفكار والآراء، ويكتشفان بعضهما ليس ذلك فقط بل يعترفان بأخطائهما ونقاط ضعفهما وما مارساه من خطايا من وجهة نظرهما.
تلك المشاهد الثرية والتي تحولت أيضا لمباراة تمثيلية أخاذة التي تم توظيف لقطات "الفلاش باك" فيها بشكل شديد الفنية، ودون أن يثقل الدراما العكس تماما بل دفع بالأحداث وكشف الكثير من تاريخ الشخصيتين وأيضا تاريخ الأرجنتين السياسي حيث ينقل المخرج الفيلم إلى أحداث الأرجنتين عام 1976 عندما أطاحت الديكتاتورية العسكرية اليمينية بالرئيسة إيزابيل بيرون، وصولا إلى واحد من أجمل مشاهد الفيلم عندما حاول الكاردينال الأرجنتيني أن يعلم البابا بينديكت رقصة التانجو، والمشهد الذي خرج فيه البابا على رعيته من السائحين الذين يزرون الفاتيكان والتقط معهم الصور والسلفي.
تلك المكاشفة والصراحة أدت إلى وصول البطلين إلى حالة من التحرر، والشعور بالراحة والإيمان بأهمية بالتغيير الذي من الطبيعي أن يطرأ على أفكار أي إنسان حتى وإن كان يتمتع بسلطة دينية فهو في الأول والآخر إنسان، وهو ما أدى إلى استقالة البابا بنديكت في حدث نادر لم يتكرر منذ قرون مضت ولكنه أدرك أن لحظته قد حانت ويكفيه أن يحمل لقبا شرفيا فالعصر بمفرداته لم يعد يلاءم أفكاره ولا سياسته المحافظة وانتخاب خورخي بيرجوليو البابا الجديد للفاتيكان، والذي غير الكثير من الصورة النمطية للبابا وما يتعلق بالمراسم والتشريفات والطقوس المتعلقة بسفرات ورحلات البابا.
أداء الثنائي أنتوني هوبكنز في دور البابا بينكدت الـ16 وجوناثان برايس في دور الكاردينال خورخي بيرجوليو جاء رائعا تفوقا في كل المشاهد المشهد قبل الأخير الذي جمع الثنائي عندما اجتمعا لمشاهدة نهائي كأس العالم بين منتخبا ألمانيا والأرجنتين وكلا منهما يشجع منتخب بلده.
تميز فيلم البابوان يجعله من الأفلام التي تنافس وبقوة في جوائز الجولدن جلوب والأوسكار المقبلة.