(حدث ذات مرّة في هوليوود) إنفوغراف سينمائي لِما كان (2-2)
نوار عكاشه
لطالما كانت كاريزما (براد بيت) محور اهتمام وعنصر مساعد في أدائه، وهي كذلك في هذا الفيلم، لكنه هنا يتفوق في توظيفها وامتلاكها ليقدم أداءً يُعتَبر من أفضل ما قدم في مسيرته، تكنيك متقن يرفع الشخصية، نظراته وأقوال عيونه، صوته وطلاقة النطق، الهدوء واستخدام الأدوات الجسمانية للتعبير.. يجعل أداءه موضع تقدير وإعجاب.
بالتوازي مع النجم والدوبلير؛ نرى (شارون تيت) بِمحور يبدو منفصل عنهما، يتقاربان في مشهد في البداية ومشهد النهاية، لكنه محور أساسي في لغة هذا الفيلم، وبين المشهدين تكمن الحكايا، هي ممثلة شابة منطلقة، هوليوودية شقراء بقوام ممشوق وحساسية عالية، تضجُّ طاقة واندفاع، تبحث عن مكانها الخاص وسط زحمة النجوم والانتاجات، تتزوج مخرج معروف (رولان بولانسكي) أملاً في تحقيق ذاتها المهنية، لازالت تلك الشابة تمتلك عفوية وطيبة، تغمرها الدهشة والبهجة وهي جالسة في صالة السينما تأخذ بشكل مباشر ردود فعل الجمهور وتناغمهم مع أدائها في أحد أفلامها.
جاء اختيار المخرج للنجمة (مارغو روبي) موفقاً، فَمواصفاتها الشكلية تناسب الشخصية تماماً، كما موهبتها التي توجهت بها إلى بساطة الأداء تبعاً لمقومات الشخصية التي تمثل الأحلام الهوليوودية الوردية.
أسلبّة صوريّة ترسم حبكة سينمائية
يبتعد تارانتينو عن خطية السرد التقليدي، يقامر بِنوستالجيا بصرية أنويّة يصنعها ويُولفها بمزاج خاص، أسلبّة بصرية بِمشاهد حكائية صُغرى متجاورة ومتتابعة ترسم حبكة سينمائية لِحكايته الكبرى في شريطه، إذاً هو يبقى ملتزماً بأخلاقيات التجربة الفيلمية، يشتغل على حكايته الرئيسية بِتركيب مجموعة من الحكايات الفرعية الداعمة، بين رغبة "ريك" بالتعرف على جاره أملاً بالحصول على فرصة عمل معه في بداية الفيلم، وتحقيق ذلك التعارف بِالولوج إلى بيته بعد دعوته من قبل الزوجة في نهاية الفيلم؛ نشاهد تشظياً للحكاية الرئيسية إلى حكايات منفصلة متصلة مفعمة بالدلالات تدعم حكاية الفيلم وتضمن تقنية سردية مختلفة.
القصة الرئيسية نواة الفيلم، تدور حولها فرعيات كَهيولى تتقاطب وتتزايح بِغرض التشويق، فَالمشاهد يتتبع وينتظر لقاء لا يتحقق حتى النهاية، إنّه سيناريو تارانتينو، سينما التفاصيل والدلالات، وحدة الزمان والمكان والحدث بِكيفية خاصة بِه لا تقبل الكلاسيكيات، بل تفتح الباب على اشتباكات وتعالقات متجددة، هنا هوليوود 1969 في طور التغيير، في العمق لا شيء يبدو منطقياً حين التغيير، مكان يعجُّ بالحالمين والباحثين والحائرين، هذا التشظي النفسي لِذوات الشخوص يستلزم تشظي حكائي كثيف المعاني.
دلالات حيّة وتفاصيل لا تهمنا
لا يمر مشهد في الشريط دون أن يقول شيئاً، الحوارات الغزيرة كذا الأمر؛ طلاقتها وطرافتها ممسوسة بالدلالات الحيّة، ليس فقط المدينة باستوديوهاتها الضخمة، إنّما مجتمع بأكمله يتغير، الاستهلاك أصبح عنوان هذا المجتمع الصاخب، نرى ذلك واضحاً بالمانشيت العريض في قصة النجم وتضاؤل السينما بِقداستها بشكل مضطرد أمام التلفزيون، وأكثر من ذلك في العمق، في الثقافة الشعبية العامة في أمريكا التي تحظى باهتمام تارانتينو ونطالعها في جميع أفلامه من حس فكاهي سوداوي وفيتيشيات جنسية وشخصيات متطرفة حواراتها لمّاحة متذاكية وعنف متفجر.
نستمع في إذاعة السيارة المتنقلة ريبيتوار موسيقي وإعلانات تجارية موافقة للمرحلة في نزق أحلامها، نراقب طلائع جديدة في الشوارع، إنّهم الهيبيز، حياتهم العشوائية واعتناقهم لأسلوب حياة معيشي يعترف باليومي فقط، حانِقين على الوضع العام؛ فَهربوا منه، تُعبِر شابة منهم للدوبلير عن ذلك بكرهها للممثلين قائلة: "الممثلون يؤدون شخصيات تُقتَل، بينما الناس الحقيقيون يُقتَلون في فيتنام"، وكذلك ذلك الشاب منهم يقول لرفاقه في القسم الأخير من الفيلم: "نقتل من علمنا القتل" في إشارة لِنجم سلسلة "صياد الجوائز". البحث عن المتعة السريعة سِمة المرحلة ويُحتَفى بها، الأطعمة الجاهزة والحفلات والسهر والكحول…حتى أنّ الأفلام الإباحية أصبح لها حفل افتتاح!
نعلم أن تارانتينو أخذ جريمة قتل حدثت بالفعل في ذاك الزمان راحت ضحيتها الممثلة (شارون تيت) زوجة المخرج البولندي (رولان بولانسكي) على أيدي عصابة (تشارلز مانسون) الدمويّة، وقدمها مغيّراً حقيقتها، لكن ما همُّنا! تلك جريمة أخذت حقها في الإعلام وقتئذٍ، ولا يقدم المخرج اليوم فيلماً وثائقياً عنها، إنّه يستعير حدث غابر ويبدل بِه، وهو حق مشروع لكل سينمائي، تختلط التوصيفات بين اقتباس واستيحاء وتُطلَق اتهامات بخيانة الحقائق أو المصادر، وتبقى السينما أرفع من ذلك، والأمانة الوحيدة لِكل كاتب سيناريو هي أمانته لمهنته ومدى ملائمة عمله للواقع الفيلمي الحاوي لِما حصل فعلاً وما يُتخيَّل حصوله، وخيال تارانتينو أجاد عليه بِأن ينتصر للفنانين في نهاية فيلمه آملاً بِدوام شمس هوليوود مشرقة.
الفيلم حائز على العديد من الجوائز ومنها 3 جوائز golden globes عن فئات (أفضل فيلم كوميدي، أفضل سيناريو: كوينتن تارانتينو، أفضل ممثل مساعد: براد بيت)
ومُرشح ل 10 جوائز BAFTA و10 جوائز OSCAR