ريش.. عوالم واقعية جدا ممزوجة بالغرائبية والجنون
مي المرعشلي
شاهدت فيلم “ريش” في عرضه العربي الأول ضمن فعاليات مهرجان الجونة السينمائي في دورته الخامسة، وتابعت من بعد حالة الاستقطاب بين مهاجمين ومدافعين وتجييش الآراء مع وضد بضراوة غير مبررة في وجهة نظري.
والعجيب في الموضوع أن منطلق هذه الحالة الجدلية والحرب الشعواء ليس تحليل الفيلم فنيا بل ربطه بأبعاد سياسية ودينية وسلطوية ليس لها أدني علاقة من بعيد أو قريب بما شاهدته وانتهت بخطوة غاية في الرخص مثل تسريب الفيلم.
مبدئيا وجب التنويه أن هذا الفيلم تجربة مشاهدة مختلفة جداً جداً وصعبة وثقيلة وغير اعتيادية بالمرة.
اعتمد الزهيري في نقده للفقر لأن يصدمنا في كل shot تلو الأخر باعتماد لغة بصرية أقرب لأسلوب الجروتيسك grotesque أي تشويه الأشياء، وتضخيم مدي القبح والتلوث والدموية والبؤس والمرض الذي يعيشه المهمشين كل يوم من باب أن يعيد صحوتنا في رفض تلك المشاهد بفطرتنا.
إذا فهو يتعمد المبالغة في القبح ليحرك مشاعر رفضه داخل المشاهد الذي يعيش في مثل تلك المشاهد أو يراها من حوله في كثير من المناطق وأصبحت بالنسبة له أمر طبعي من فرط العجز والاستسلام لها كأمر مسلم به.
في وجهة نظري الإنجاز الحقيقي للفيلم كان في خلق عوالم تبدو للوهلة الأولى واقعية جدا ولكنها ممزوجة بالغرائبية والجنون في آن واحد، فيتركك مع أدوات واكسسوارات وديكورات تبدو مألوفة جدا وفي ذات الوقت غريبة جدا، تعمد أن يغير ويلعب فيها وتكويناتها ليتركك في حالة ذهول وصدمة دائمة لا تنفك تعتقد أن هذا كابوس حتى تفاجأ انه واقع مألوف.
وتعمد إضفاء باليتة ألوان يغلب عليها “شبورة” رمادية تعكس التلوث الذي يعيشه عمال المصانع في ضواحي المناطق الصناعية بصرياً ونفسياً.
خلق الزهيري لغة سينمائية جديدة وطازجة تماماً بدون الوقوع في الأنماط والقوالب السينمائية المصرية أو العالمية هو في رأيي أهم إنجاز حققه الفيلم. حالة الحراك التحليلي والنقدي صحية ومطلوبة وعلي الفنان الحق أن يمارس إبداعه وحقه الخروج عن المألوف لتوصيل وجهة نظره.
على فكرة، أنا شخصياً لا أحبذ هذا الأسلوب، وأري أن السينما فن أقرب لفلسفة الجمال وتنتشل العقل والروح من الواقع لتزكيهم وتذكر الإنسان بأوتار في إنسانيته تصدأ من ندرة استخدامها. ولكن هل هذا يمنع إشادتي بالجهد الإبداعي في طرح لغة سينمائية وبصرية جديدة؟ بالطبع لا، بل على العكس، ربما ليس نوع الفن الذي “أحبه”، لكن بالتأكيد أحترم وأعترف بالموهبة الفريدة حين أراها.
علي صعيد القصة، اعتقد في تحليلي المتواضع انه قصد أسلوب المفارقة الكوميدية parody والspoof أي انه اخذ قصة “مهروسة” في 100 فيلم مصري عن معاناة المرأة المصرية بعد اختفاء زوجها لأي سبب، ووقوعها فريسة ومطمع للذكورية والجهل والفقر ولكن من باب الـcomic relief والضحك علي هذه الحالة من خلال الأداء العجائبي وصدمتك بأسباب معاناتها من خلال مشاهد الصمت، وهي التي تغلب على الفيلم، لأن السينما لغة بصرية، وتعتمد على إيصال الإيحاءات والمعاني من خلال التكوينات والدلالات البصرية، وفي هذا الصدد أبدع المخرج مع اختلاف ذائقتنا الفنية عنه.
أخيرا، بالطبع توجد عيوب: الممثلين احتاجوا توجيه وتدريب حتى لو كانوا أول مرة يقفون أمام الكاميرا، في أحيان كثيرة شعرت انه صور أول take ولم يعيده مرة واحدة، وجاء أدائهم مرتجلا ومفتعلا في أحيان كثيرة، في حين كان لديهم الكثير ممكن تطويره مع التدريب.
لم يهتم برسم الشخصيات، ولم يسمح لنا بأي تعاطف أو توحد معها، واعتمد على الصدمة بالصور البصرية الـ grotesque لينتقد حالهم، وكنت أفضل مزج هذا مع بناء الشخصيات.
في النهاية، في وجهة نظري أي بروبجاندا مبالغ بها لأي فيلم تقلب ضده، لأنها ترفع سقف التوقعات جدا لمشاهدة شيء مبالغ في الإبهار ودائماً ما يؤدي ذلك لرد فعل معاكس عند المشاهدة.
في رأيي، الفيلم تجربة متفردة وجديدة ويسمح بسنوات من التحليل والدراسات والنقد، وحتى وسط عالم القبح والتلوث خلق كادرات جميلة وسط القبح، وخرج عن المألوف.
نعم، أتمنى في تجارب الزهيري المستقبلية أن يعير اهتمام أكبر للشخصيات وتدريب الممثلين حتى لو هي أول تجربة لهم، وأن يعمل على الحوار بشكل أعمق.
ولكن على مستوي التجريب السينمائي لا يسعني سوي احترام وتقدير جهده وسعيه لخلق عوالم وسمات ولغة سينمائية جديدة وهذا يستحق الاحتفاء به وسط زمن “النحت بالمسطرة” والخوف من أي تجديد حتى لو خالفته في اختياراته الفنية.
الفيلم ليس من المتوقع استيعابه أو نجاحه جماهيريا في اعتقادي، ولكن كنت أتمنى من الدارسين نقده كعمل فني وعدم تحميله فوق طاقته بمهاترات وشد وجذب في مواضيع فرعية ليس لها علاقة بتقييم الفيلم نهائيا.
وانا شخصيا في انتظار تجارب المخرج القادمة وأتمني أن يستمر في تقديم ما يؤمن برؤى أكثر نضجاً بطبيعة الحال، وان يستمر في خلق تجارب مختلفة لأننا نحتاج هذا الحراك والنقاش وهو بكل الأحوال إنجاز فني في حد ذاته.