مهرجان الجونة السينمائي: نظرة على الصحة النفسية للممثلين
نائلة إدريس
بالتعاون مع مهرجان “ميدفست مصر” نظم مهرجان الجونة السينمائي بمناسبة دورته الخامسة التي أجريت من 14 إلى 22 أكتوبر 2022، جلسة نقاش بعنوان ” نظرة على الصحة النفسية للممثلين” وموضوعها الصحة النفسية للفنانين.
تأسس ميدفست مصر سنة 2017، وهو ملتقى دولي متجول للأفلام القصيرة والأول من نوعه في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في دمج عالمي صناعة الأفلام والطب من خلال تجربة سينمائية فريدة.
أسس ميدفست مصر كلاً من دكتور مينا النجار، طبيب وأخصائي تغذية علاجية وهو عضو الجمعية الأوروبية للتغذية العلاجية وأيضاً يعمل كمخرج وممثل، ودكتور خالد علي طبيب وهو محاضر لطب المسنين والحالات الحرجة في كلية الطب جامعة برايتون في المملكة المتحدة ومحرر قسم مراجعات الأفلام بمجلة MEDICAL HUMANITIES التابعة للمجلة الطبية البريطانية (BRITISH MEDICAL JOURNAL).
يقدم ميدفست مصر منظورًا مختلفًا للصحة من خلال خلق أرض مشتركة بين الطب والأفلام حيث تُستخدم الأخيرة كأداة مؤثرة وفعالة في نقل واقع التجربة الإنسانية التي قد تملؤها العديد من الصعاب الجسدية والنفسية، بشكل درامي ممتع.
مع العلم أن الدكتور مينا النجار هو من اقترح موضوع جلسة النقاش، ذلك ان تجربته الشخصية كطبيب وممثل أبرزت له كم أن حياة الفنان صعبة وفي بعض الأحيان أليمة، لكنهم لا يظهرون ذلك حفاظا على صورتهم لدى الجمهور، فقد بدا له من المهم كسر هذا التحريم ومناقشته أخيرا، ولن تكون جلسة النقاش هذه المبادرة الوحيدة في هذا المجال بل ستتبعها نقاشات و/أو أنشطة أخرى.
شارك في حلقة النقاش، كل من انس بوخش مقدم برنامج AB Talk بقناته على اليوتيوب، (أدار جلسة النقاش)، والممثلين المصريين احمد مالك و مي الغيطي و محمد فراج و الكاتبة مريم نعوم والدكتور نبيل القط طبيب نفسي وعضو مجلس إدارة بـSociety For Developmental Psychiatry وبـAmerican Society For Group Psychotherapy وممثل مع انه غالبا ما يلعب فقط دور طبيب نفسي.
الصحة العقلية للممثلين هي مشكلة شائعة في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقية وعلى المستوى العالمي. الهشاشة النفسية للممثلين راجعة لعدة أسباب مثل الرفض وخيبة الأمل في الحصول على ادوار وفشل الاختبارات، وردة الفعل السلبية للجمهور أو النقاد تجاه عملهم والحاجة لتقمص الدور الذي يلعبونه حتى يكونوا أصيلين وقابلين للإقناع كممثلين.
زيادة على هذا وعلى مر السنوات تطورت المهنة كثيرا، اليوم يُطلب من الممثلين إضافة إلى مهنتهم كفنانين، أن يقوموا باختيارات سياسية، وان يتحدثوا عنها ويشاركوا آراءهم في مواضيع مختلفة، وان يقوموا بالتواصل بأنفسهم عبر موقع التواصل الاجتماعي، وعيش حياتهم العائلية والشخصية. كيف يمكن أن يجدوا توازنا بين كل هذا؟
حسب الدكتور القط هذا التوازن أصبح صعبا، نظرا للضغوطات الهائلة التي تمارس على الممثلين، فهي مهنة رائعة لكنها خطيرة. كل ممثل عندما يتقمص شخصية فهو يعيش تجارب شخصية وإنسانية استثنائية، التي تمكنه في نفس الوقت من كسب عيشه، لكنها لحظات تمت كتابتها له ولم يخترها، مع ذلك في بعض الأحيان أداء بعض المشاهد أو المواقف صعب جدا، مثلا عندما يكون الممثل نفسه قد مر بنفس المحنة المطلوب منه أداءها مثل مشهد الحداد، بينما عاش هو نفسه حداد صعب. فكيف سيتجاوز ذلك؟
نفس الشيء بالنسبة للمثلين اللذين يلعبون ادوار لا يحبونها. كيف يعيشون ويتجاوزون ذلك؟
دراسة أمريكية بينت أن الممثلين يعانون من الاكتئاب وإدمان المخدرات أو الكحول أكثر من غيرهم من الأمريكيين.
دون أن ننسى أنّ الممثلين عليهم مواجهة الضغوطات الخارجية مثل الصحافة ومواقع التواصل الاجتماعي …الخ، مما يجبرهم على لعب دور باستمرار كلما كانوا في أماكن عامة للعناية بصورتهم وحتى يتمكنوا من “تسويق” أنفسهم.
حسب الدكتور القط هنالك عديد الوسائل لمساعدة الفنانين لاسترجاع حياة عادية بعد أداء دور صعب، كل واحد منهم له طريقته وتقنياته الخاصة للوصول إلى ذلك.
حسب مي الغيطي يجب أن يتعلموا إجراء فصل تام بين الدور والحياة الشخصية: ” أنا ابتدأت التمثيل صغيرة جدا، وحاليا عندي 22 سنة، تعلمت تقنية وهي: وضع مسافة بين الدور وذاتي. يقال انه يجب تقمص الشخصية، لكني افعل العكس في داخلي انفصل عن الشخصية لحماية نفسي، فعندما العب دور امام الكاميرا اضع شخصيتي جانبا، أخفيها، هذا صعب لأنه في الوقت نفسه يجب أن اندمج بالكامل في الدور.
في أحد الأيام أدركت أنني لا أتذكر طفولتي، فانا أمثل منذ 13 سنة، ونسيت طفولتي لأنني كنت مأخوذة في دوامة التصوير، لهذا السبب ومنذ بعض السنوات أخذت قرار بان أواصل دراستي، واشكر والدتي التي في وقت ما منعتني من أن آخذ عمل إضافي لرمضان وأجبرتني على الاهتمام بدراستي وان أعيش حياتي الشخصية، الآن كراشدة افعل ذلك بنفسي ويجب أن احتفظ بجزء من الحياة لخاصة نفسي”.
من جهته أكد احمد مالك على أهمية التوازن النفسي بين الحياة المهنية والشخصية للفنان، قائلا:” عندما ابدأ مشروع، أكون شغوف واشعر أني قوي ولدي الكثير لأعطيه، في آخر التصوير أعاني من الاكتئاب، وأحس بالانطفاء والفراغ، كما لو أنني وهبت جزءا من ذاتي وانه ينقصني شيء ما.
بعد مسلسل “لا تطفئ الشمس” (2017) بقيت ربما 4 أشهر لم أكن اعرف كيف أتعامل مع نفسي وكيف انفصل عن الشخصية، دون أن افهم ما يحصل لي، أحس بالغرابة مع الكثير من التساؤلات، فقررت أن أتابع دروسي. مع التجربة أدركت انه بين عمليات التصوير يجب حتما الرجوع إلى حياة روتينية ومتوازنة حتى نشعر أننا بخير، هذا يمكّن من الفصل بين الشخصية والحياة الخاصة، العائلة أيضا هامة جدا، يجب حقيقةً خلق توازن، حياتي اليومية وروتيني الشخصي هما اللذان يمكناني من استعادة نفسي. عندما أصور، في بعض الأحيان يكون لدي يوم عمل بـ 20 ساعة وبمواقيت مستحيلة، وعندما أُنهي العمل أعود حالا إلى حياتي الروتينية وارجع إلى ما أحب، مثل الرياضة والقراءة. افرح عندما أجد يوما أكون فيه حرا من تنظيم نفسي، وهذا هام جدا بالنسبة لي، كما أنني استشرت مختص، ثم عندما يكون لي عمل جديد اعتبره بمثابة رحلة جديدة أو تجربة جديدة …”
أما بالنسبة لمحمد فراج فقد أكد ما قاله زميله:” مثل احمد مالك حياتي الروتينية الشخصية هامة جدا بالنسبة لي وتمكنني من استعادة توازني، هنالك شخصيات معقدة جدا تتطلب عمل كبير جدا لدراستها وفهمها وتقمصها، يجب معرفة فصل هذه الشخصيات عن أنفسنا، الممثل يخوض حرب نفسية بين شخصيته والشخصية التي يتقمصها.
سنة 2015 في مسلسل “تحت السيطرة” تقمصت دور مدمن، كانت أول مرة في حياتي التي العب فيها مثل هذا الدور الذي يتطلب مجهودات كبيرة، قبل التصوير كان لابد أن ادرس الموضوع وافهمه لأكون مستعدا له، لم أكن اعرف وقتها إلى أي درجة الاستعداد مهم، بدأت التصوير وأنا نفسي مضطرب جدا وأحسست أنني غير مستعد لهذا الدور، زد على ذلك وأثناء التصوير كان لدي مشاكل شخصية، فقدت خالي الذي كان قريب جدا جدا مني، فهو من رباني. بعد هذا المسلسل عرفت كم من المهم أن أتعلم الفصل بيني وبين هذه الشخصيات حتى لا أؤذي نفسي، يجب ان نعرف كيف نكون صادقين مع أنفسنا حتى نتخطى”.
بالنسبة لمريم نعوم حتى تكون ممثل يجب من البداية ان تكون شخصية مميزة، الممثلين مختلفين”، لكن فيما يتعلق بكاتبي السيناريو عندما نكتب كل حالة يتم عيشها فعلا من طرف الكاتب وتكتب بصعوبة وبألم، لكن بالنسبة للممثلين نركز على ضرورة تقمصهم للشخصية، لكننا لا نعرف كيف نخرجهم من الشخصية بعد التصوير، وفي بعض الأحيان نفس الشيء يحصل لنا، مهنتنا تسحبنا من حياتنا الخاصة وتسرقها.
في أحد الأيام قال لي أحد الأصدقاء: أظن أنك تحبين “مريم نعوم” أكثر من “مريم”، وهذا صدمني، لكن الحقيقة إننا ننسى أنفسنا، بينما علينا الحرص على ضرورة أن تكون ذاتنا هي الأهم، وما أن تتم كتابة السيناريو وتصويره، يجب نسيانه واستعادة حياة عادية”.
أضاف دكتور القط:” الممثل يدخل مشهد ويصوره لكنه ليس لديه أي فكرة عمّا سيفعل المخرج بهذا المشهد، وليس لديه أي سيطرة على الفيلم. أداة عمله هي جسده، لكنه ليس حرا ليفعل به ما يريد، فهو مجبر على الخضوع للمخرج وهذا يتطلب منه سيطرة ذاتية هائلة.
يجب أن يؤمن الممثل بان مهنته لها أهمية ولها دور في المجتمع. يجب أن يكون لديه إحساس بالانتماء، لكن حتى يشعر انه بخير يجب على الممثل أن يفرق بين شخصيته والشخصية التي يتقمصها. على عكس المرضى اللذين لديهم ازدواج في الشخصية بصفة لاإرادية ولاواعية، الممثلين يفعلون ذلك بتعمد، جزء من وعيهم يعلم أن هنالك فريق وتقنيين، لكن جزء آخر من ذاتهم مستغرق داخل تلك الشخصية.
بعد التصوير يجب حتما خلال أسبوعين إلى 4 أسابيع على أقصى تقدير أن ينسى الممثل الشخصية بالكامل، سلوكياتها، كيف كانت، كيف تتصرف … يجب أن يستعيد حياته الشخصية على الفور.
على الممثلين أن يواجهوا مشكل آخر: عدم الاستقرار، مهنة الممثل ليست آمنة، فالممثل يمكن أن يعمل اليوم ولا شيء غدا، يمكن أن يكون نجم كبير لبعض الوقت ومطلوب من المخرجين والمنتجين ثم في يوم ما لا شيء، مع العلم أن 10% فقط من الممثلين المصريين مسجلين بالنقابة”.
أضافت مي الغيطي انه زيادة عن الصحة العقلية، هنالك أيضا المرض والوجع الجسدي للممثلين اللذين عليهم أن يعملوا وان يبقوا بمواقع التصوير حتى إن كانوا مرضى أو مصابين، وهو ما حصل معها شخصيا، وإلا يصبحون منبوذين من طرف المنتجين.
هذا ما أكده محمد الفراج الذي أضاف أنّ الممثل يجب أن يأتي على نفسه ليعمل تحت أي الظروف، يجب أن يتعلم كيف يتجاهل الألم، مشاكله الشخصية، احزانه، امواته.
الممثلة وجهت نداء لزملائها لكي يتضامنوا فيما بينهم ويفرضوا عدم تجاوز التصوير لـ 16 ساعة، وخاصة أن يتمكن الممثلون من مغادرة مواقع التصوير إذا ما كانوا مرضى. بالنسبة لها هذا التضامن هو فقط ما سيجبر المنتجين على تغيير ظروف العمل وجعلهم أكثر رحمة. ” نحن نكافح من اجل هذه الصناعة السينماتوغرافية ويجب أن نبقى أقوياء لدعمها والارتقاء بها، لكننا يجب أيضا أن نحارب حتى نحصل على حقوق أكثر، مثل طلب تخفيض ساعات التصوير. في بعض الأحيان اشعر انه تم تحويلنا إلى أدوات لهذه الصناعة وتناسوا أننا بشر”.
مريم نعوم أكدت انه منذ بعض السنوات أضيف مشكل آخر لهموم الفنانين: مواقع التواصل الاجتماعي، أين يتسلى الناس بالتدخل في الحياة الخاصة للممثلين وذلك غالبا بسبهم وثلبهم.
” يجب أن نتخذ مسافة من مواقع التواصل الاجتماعي، هي هامة نعم، بل وتمكننا من رؤية عيوبنا الخاصة من خلال النقد، لكن المشكل هو أن العديد متواجدون لقول أي شيء ولإسقاط عقدهم الخاصة على الفنانين. يعتقدون أنهم آمنين وراء شاشاتهم ويسمحون لأنفسهم بقول أشياء تكون أحيانا مريعة”.
هذا ما أكده احمد مالك:” مواقع التواصل الاجتماعي بجانبيها الايجابي والسلبي تذهب من النقيض إلى النقيض. أحاول أن افصل نفسي عنها وأضع مسافة، بالرغم من انه لا يمكن تجاهلها، لكنني أحاول أن اقرأ فقط ما يكتبه الأشخاص اللذين اعرفهم واعتقد أن لديهم مصداقية واللذين أثق بهم وأحاول أن أتجاهل تماما الآخرين”.
ختم الدكتور نبيل القط هذه الجلسة النقاشية قائلا:” الاكتئاب هو أحد أكثر المشاكل النفسية التي يعاني منها الممثل، سواء أثناء المشهد وهو يحاول أداء الشخصية بالشكل الأمثل أو بعد الانتهاء من العمل وقبل عرضه، لأنه يعاني من قلق شديد بسبب انتظاره لمعرفة آراء الجمهور والصُناع حول عمله. دون أن ننسى انعدام الأمان المالي الراجع لعدم وجود دخل منتظم”.
ثم أضاف ” من درس التمثيل يعلم جيدا أن الممثلين لديهم قدرة أعلى على ضبط النفس وينتمون لفئة من الناس لديها دور مجتمعي مميز. أدعو الممثلين لرفض تحويل أنفسهم وأجسادهم لخدمة المخرج والمنتج والمصمم، كما أنني أنصح الممثلين بالفصل بين الحياة العملية والشخصية من خلال تبني عادات تُغذي شخصيتهم وتزيد من وعيهم مثل الاحتفاظ بشيء شخصي أثناء التصوير”.
دكتور نبيل القط سلط الضوء أيضا على ما يمر به الممثل بعد الانتهاء من عمل ما، قائلا: “يوجد بعض الحالات التي يحصل لديها انشقاق لدرجة التحدث بلغة أخرى أو يتبنون سلوكيات غير سلوكياتهم. طبقا لإحدى الدراسات، فإن السيدات هن الأكثر تضررا في صناعة السينما نتيجة لاستغلال أجسادهن مما يخلق العديد من المشاكل النفسية”.