حياة أخرى للنساء في “سبنسر”
اهربي يا ديانا.. اهربي
جيلان سلمان
في الآونة الأخيرة، انتهج بعض السينمائيين والمبدعين نهجاً يسلط الضوء على حياة النساء اللاتي عانين حياة مريرة مبدعة تحت الأضواء، وفي محاولة منهم لكسر النمط وتحدي الواقع، تخيل هؤلاء المبدعين ماذا لو استطاعت هذه المرأة كسر حلقة الإيذاء والألم والهروب؟ ماذا لو أنها لم تتحول إلى قصة حزينة أخرى؟ في حلقات من إعادة تخيل الواقع وإعادة كتابة التاريخ، اخترنا نماذج من السينما والدراما لنساء مشرقات، تألقن في الحياة الفنية والأدبية والاجتماعية ومحاولات بعض المبدعين تخيل حياة أخرى لهن، أكبر وأروع من تلك التي عشنها، ليكون فيلم سبنسر عن لقطة في حياة الأميرة الراحلة ديانا سبنسر هو ختام هذه الرحلة في دروب الهروب من القدر.
في فيلم “ذات مرة في هوليوود”، تخيل كونتين تارانتينو حياة عاشت فيها شارون تيت، الممثلة الأمريكية المثيرة والزوجة الراحلة للمخرج رومان بولانسكي والتي قُتلت في جريمة طقسية أمريكية جداً على يد تشارلز مانسون رئيس إحدى الطوائف الدينية الجنونية التي تشبه كثير من الطوائف الدينية الموجودة حتى وقتنا هذا.
في الفيلم، تُنقذ شارون على يد بطلين وهميين، الممثل ريك دالتون والدوبلير الخاص به كليف بوث، وفي الحقيقة تُقتل شارون تيت الحامل في الشهر الثامن بسِت عشر طعنة. في الفيلم منح تارانتينو لشارون حياة أكبر من حياتها، وفي الحقيقة ماتت شارون في عامها السادس والعشرين. اهتم تارانتينو بإظهار تيت في أجمل صورها، جعل الممثلة الجميلة مارجو روبي تؤدي دورها، وأظهرها في لحظات قصيرة سعيدة وهي تذهب للسينما لتشاهد نفسها على الشاشة، أو هي ترقص مع صديقاتها مرتدية ملابس الستينات العصرية الأنيقة، تقود سيارتها مستمعة للأغاني في سعادة، محتفية بكل ما سلبها إياه القتلة وقتها؛ الجمال، الصٌغر، الموهبة، وإنجاب طفل قُتل معها في ظلمة الرحم.
في مسلسل بعنوان “ديكنسون”، تخيلت المؤلفة وكاتبة السيناريو آلينا سميث حياة سرية للشاعرة الأمريكية العبقرية إميلي ديكنسون والتي ظلت تبدع وتعاني في غرفتها، معتزلة العالم والرجال والحياة، لتموت في سن الخامسة والخمسين بسبب أمراض الكلى. في المسلسل لم تكن إميلي امرأة تعيسة غامضة، تكتب وتبدع والعالم باهت من حولها، غير قادرة على التواصل مع أفراده. كانت إميلي المتخيلة عاشقة، مجنونة، مهووسة بحب سو زوجة أخيها، تغترف من المغامرات العاطفية ما تستطيع، تشارك في نشاطات خُصصت فقط للرجال وقتها، وتكتب دون اعتبار للنشر أو إظهار أعمالها للعلن. منحت آلينا حياة لديكنسون ربما لم تحظَ بها الشاعرة التي سبقت زمنها وهي على قيد الحياة. لكنها خلدتها في عمل تلفزيوني مبهر سيبقى للأبد في سيرة ذاتية تخيلية لامرأة حقيقية.
ومؤخراً في فيلم “سبنسر” للمخرج بابلو لاراين والذي وصفه بأنه خرافة مبنية على قصة حقيقية، يتخيل لاراين هواجس ديانا الداخلية ووحوشها أثناء عشاء الكريسماس الأخير مع العائلة المالكة. ولكن بقدر ما بنى الفيلم على حقائق تتعلق بديانا وما أججته داخلها زيجتها العاصفة بتشارلز وضغط قوانين العائلة المالكة عليها لتندمج وتطيع، لكن الفيلم يبدو مرثية لأي امرأة شعرت بانسحاقها تحت الظروف وبقيت في علاقة تكرهها، مما جعل كل تفصيلة في الفيلم تبدو بشعة ومخيفة لمن اضطر يوماً للبقاء في علاقة مؤذية سواء نفسياً أو جسدياً.
تضطر ديانا للجلوس على ميزان كتقليد عائلي لتحديد وزنها قبل وبعد الاحتفالات وتناول الطعام اللذيذ في القصر، فيحيي الطقس المهين عندها ألماً كامناً لمعاناتها من مرض البوليميا وهو أحد الاضطرابات الغذائية التي تعاني منها النساء -غالباً- لهوسهن بفقدان الوزن. تجلس لتناول الطعام مع أفراد العائلة فتزيدها الآلام رغبة في التهام الطعام بصورة مفزعة، ويصور لاراين بطلته كريستن ستيوارت في اللقطة التي تليها وهي تركض في دهليز واسع فاخر موحش، تمسك ببطنها من آلام تمزقها، لتفرغها في أقرب دورة مياه. تتماس ديانا مع آن بولين الزوجة التي ضحى بها الملك هنري الثامن لرغبته في الزواج بأخرى، فكأنما هي الزوجة مقطوعة الرأس التي سيضحي بها تشارلز للزواج بحبيبته الحقيقية. مع كل تفصيلة ترتبط امرأة من وراء الشاشة برحلة ديانا المعذبة، والتي لن يفهمها سوى من أُجبر على حمل نفس الصليب صاعداً الجلجثة، مروراً بمراحل متعددة من طبقات الآلام، فما قد يبدو موقفاً تافهاً للبعض -لماذا لا تجلس على الميزان وتنهي الأمر بسرعة- قد يكون محفزاً لآلام لا يدركها سوى من مر بها أو بمثيلتها من قبل.
يظهر لاراين وجود ديانا في القصر كسلسلة من المقاطعات والتدخلات السافرة في لحظات خلوتها، في كل مرة تختلي بنفسها يكون هناك من يبحث عنها، وكأنما القصر يحاصرها لا بجدرانه فقط ولكن بموجوداته والعاملين فيه وساكنيه، بل وحتى أرواح من سبقوها العيش فيه. تتآكل قبضة ديانا على الحاضر، في وصفها للقصر بأنه مكان يختلط فيه الماضي بالمستقبل، أما الحاضر فلا وجود له.
لكن لاراين لا يحكي الحكاية كما حدثت بل كما يريد لها أن تحدث، ينتصر لحرية ديانا التي لم تستطع مواجهة قبح وتوحش القصر، المرأة الهشّة تهرب بطفليها إلى رحابة العالم الخارجي، وتنتصر عليه برحلة إلى كنتاكي، مطعم للوجبات السريعة الشعبية، تختلف عن قائمة طعام القصر شديدة اللذة والفخامة لكنها تؤلم بطنها، ترتدي جينز مريح يختلف عن الفساتين التي عليها تغييرها طيلة السهرة، والتي تزيدها جمالاً لكنها تشعر بالتضاؤل داخلها.
أراد لاراين لديانا التي تتبعها في عالمه تتقيأ، وترقص، وتقابل أشباحاً، وتبكي طوال الوقت غير قادرة على السيطرة على انهياراتها العصبية أن تأخذ قراراً، أن تترك تشارلز وتهرب بطفليها من برد القصر وتحكماته وقائمة الطعام اللانهائية التي يجب أن تؤكل في مواعيد معينة، ولا يُسمح فيها بوجبة مختلسة بعد منتصف الليل. بعكس الواقع حيث أخذ تشارلز قرار الطلاق، وماتت ديانا في حادث السيارة المأساوي وهي بعد لم تكمل عامها الأربعين، بينما استكمل جميع أطراف حكايتها المؤلمة حيواتهم كأن شيئاً لم يكن، ارتبط تشارلز بكاميلا، وأكملت الملكة حكمها، وأصبح ويليام نسخة منمقة من العائلة التي طالما حلمت ديانا بالهروب منها.
ولكن بعيداً عن واقع قبيح وقصص حزينة مبتورة، اتسعت الكاميرا لتظهر ثلاث نساء؛ امرأة في القرن التاسع عشر تتسلل من منزلها ليلاً لتقابل أشباحاً وتركب عربة لتلعب القمار مع الموت وتكتب رسائل حب ممنوعة وتحضر عروضاً في الأوبرا، وامرأة في أواخر حقبة الستينات تحتفل في منزل صيفي في كاليفورنيا بحرارة الصيف وانتظار مولودها الأول، وامرأة في أوائل حقبة التسعينات تهرب بطفليها من قصر بارد كئيب مغلق على ساكنيه وأشباح من رحلوا إلى محل للوجبات السريعة ليتناولوا طعاماً مثل أي أسرة عادية لا يهددها شيء.