“المسابقة الرسمية”.. الصراع الوهمي الذي لن ينتهي
ضياء مصطفى
ثمة ربط واضح، قد يكون مقصودا، بين ظهور الفنان خالد الصاوي وعلي ربيع في حفل افتتاح الدورة الـ43 من مهرجان القاهرة السينمائي، وفيلم الافتتاح الذي عرض في أول أيام عروض الدورة، “official competition” أو المسابقة الرسمية.
الفيلم الذي شارك في مهرجان فينيسيا وسان سيباستيان قوبل بحفاوة كبيرة خلال عرضه في مهرجان القاهرة، وهو من بطولة بينيلوبي كروز وأنطونيو بانديريس وأوسكار مارتينيز، وإخراج جاستون دوبرات وماريانو كوهن، وهو عن عالم صناعة الأفلام لكن بمعالجة مختلفة وكوميدية.
في حال إنك لم تشاهد حفل الافتتاح، فبينما يقدم خالد الصاوي فقرة في الحفل، ويتحدث عن اختلاف الأذواق في السينما، يقتحم علي ربيع المسرح ويتحدث عن معاناته لعدم دعوته لأي مهرجان سينمائي، يقترح الصاوي عليه صناعة أفلام تصلح للمهرجان، ويتحدثان في إطار اسكتش كوميدي عن أفلام المهرجانات “العميقة”، التي لا تعود بالأموال على صناعها، ويخبره أن الجوائز تذهب للمخرج أو المنتج تعويضًا لهمها.
خالد الصاوي وعلي ربيع من مدرستين مختلفتين في الفن، الأول نموذج، في فترة ما، لما يطلق عليه الأعمال الفنية “العميقة” التي تصلح للمهرجانات أو الأعمال المسرحية التي في الغالب لا تجلب شهرة أو أموال لصناعها وإن كان قد قدم أعمالا “تجارية” في النصف الثاني من حياته الفنية، والآخر مثال للأعمال الفنية التي تستهدف شباك التذاكر بالأساس، حتى في بداياته المسرحية.
وكذلك كان بطلا “المسابقة الرسمية” فيليكس “أنطونيو بانديريس” و”إيفان” أوسكار مارتينيز، هما من مدرستين مختلفتين تماما داخل سياق العمل، وبفصل شديد جدا، فالأول هو الممثل المشهور الغني وتزوج أكثر من مرة ولديه الكثير من الصديقات والمعجبات، والآخر هو الممثل الذي يقدم الأعمال المختلفة ويدرس للطلاب ومتزوج من امرأة واحدة لسنوات طويلة وجوائزه بسيطة.
يدخلنا العمل في هذا الاختلاف بتناقض بصري شديد في أول ظهور لهما، فالأول يصل في سيارة فارهة مع إحدى معجباته وبألوان فاقعة، والثاني يقف بملابس كلاسيكية وألونها هادئة بشكل وقور للغاية.
والفيلم يقدم كل التناقضات بين الممثلين وعوالمهما من خلال الصراع الدائر بين البطلين أو العالمين، إنه يشبه صراع الديوك، ولم تنجح التوافقات ولا حتى المواقف الإنسانية في إخماده، فلم يرتح أحدهما إلا حين أزاح الآخر حتى وإن كان دون قصد، ولم تكن إزاحة هذا الآخر نهائية.
يوجد الكثير من التفاصيل في هذا الفيلم، التي تقدم العالمين بشكل أكبر وأعمق لم يخل من الكوميديا، ولكن ما بصدد الحديث عنه هذا الفصل الذي يفضله ويرتكن له البعض بين عالمين في الفن.
يرى بعض الفريق الأول أن الفريق الآخر يداعب مشاعر الجماهير ويقدم لهم أعمالا تافهة تعود بالملايين لكنها ليست فنا، ويرى بعض الفريق الآخر أن الأول يعيش في صومعة بعيدا عن الجمهور ومتعالٍ ومتكبرا وفاشل في النجاح الجماهيري، وقليل من يتحرك بين العالمين أو يوازن بينهم.
في حوار سابق أجراه كاتب هذه السطور مع أحد المخرجين الذين يقدمون أفلاما تستهدف المهرجانات، ذكر بعض أسماء الأفلام والمخرجين وقال نصا: “هي ديه سينما.. إنت شايف إني ديه أفلام حلوة!”.. لم يكن سؤاله استفاهميا لكنه استنكاري.
لم يختلف الحال كثيرا مع مخرج آخر تتصدر أفلامه شباك التذاكر، فقد كان رأيه أن أغلب المخرجين الذين يطلقون على أعمالهم “السينما المستقلة”، ما هم إلا مجموعة من الفشلة ارتكنوا إلى أن ما يقدمونه أكبر من وعي الجمهور.
ربما يكون هذا الفصل العنيف، إحدى أسوأ المعارك الوهمية في عالم الفن، فالحياة اختيارات، ولم تسر عجلة الفن في يوم ما دون أي من الفريقين، وكل أصحاب الرؤى المختلفة ربما اجتمعوا دون قصد لدفع عجلة الفن، وحققوا التوازن، إنها حالة تشبه التوازن البيئي.
فالسينما صناعة بالأساس ولها دور ترفيهي وثقافي وحضاري، ولا يمكن لهذه الصناعة أن تسير بقدم واحدة، وإلا ما استطاعت أن تستمر كل هذا الزمان واندثرت منذ زمن.
وإذا حققت الأعمال الفنية المختلفة نجاحا تجاريا واسعا لفقدت بريق الاختلاف، وما لم ينجح اليوم جماهيريا ربما يصبح تجاريا في المستقبل، والأمثلة من الماضي عديدة.
وهناك مقاربة لضرورة وجود العالمين، ففي الغالب يكون أصحاب الأدوار الثانية والثانوية في الأعمال الفنية المصرية أكثر موهبة في التجسيد وكثيرا ما يسرقون الكاميرا، لكن دون البطل النجم لن يكون هناك عمل من الأساس ولن نشاهدهم، فالنجم الذي يجذب الجمهور مهم للصناعة، والممثلون الموهوبون أصحاب الأدوار الثانية مهمون لثقل العمل.
في ندوة لمدير التصوير الراحل رمسيس مرزوق قال: “المشهد الذي لا يستطيع المشاهد فهمه هو عيب في الصناع”، لكن ليس كل المشاهدين على الدرجة نفسها من الوعي، ومن يقدر على قراءة مشهد سينمائي قد يقابله مشاهد يجلس بجواره يشعر بصعوبة وملل ما يشاهده، وكم من مشاهد شاهد عملا ونفر منه ومع مرور السنوات واكتساب الخبرة وازدياد ثقافته تحول هذا العمل الصعب الملل إلى مفضل بالنسبة له.
وقد تكون مشاهد الطوابير أمام سينما زاوية لمشاهدة النسخ المرممة لأفلام يوسف شاهين خير دليل على ذلك، فكم من هذه الأعمال لم تنجح جماهيريا في وقتها، وصارت الآن جماهيرية دون أن تفقد فنياتها أو جودتها.
ولذا فإن الفصل الحاد بين التجارية والأعمال المختلفة أو غير الجماهيرية أو المستهدفة المهرجانات غير دقيقة، كذلك الربط بين تقديم أعمال مختلفة وصعوبة السرد ليس ارتباطا شرطيا، فكم من أعمال مختلفة لكنها سلسة في البناء ونافذة إلى أعماق المشاهد.
لكن كما قالت لولا “بينيلوبي كروز”: “بعض الأفلام ليس لها نهايات” فقد عُرضت تترات النهاية الخاصة بالفيلم وانصرف الجمهور، لكن الفيلم لم ينته وكذلك الصراع لن ينتهى بين مدرستين في التمثيل، يتمتع الكثير في كل عالم منهما بالغرور والجنون ورغبة في إثبات أنه الأصح/ الأفضل، أو أي شيء على وزن أفعل التفضيل، أو ربما التفضيل المطلق.