ناصر 56.. نجاح جماهيري وحالة استثنائية بين إنتاجات التليفزيون المصري
أسامة عبدالفتاح
يمثل فيلم “ناصر 56” حالة استثنائية خاصة بين الأفلام التي أنتجها التليفزيون المصري، وتحديدا قطاع الإنتاج فيه، ليس فقط لأنه عُرض تجاريا -ضمن قائمة قصيرة جدا من أفلام التليفزيون- في دور العرض السينمائي خلافا للقاعدة العامة التي كانت سائدة بان يقتصر عرض الأفلام التي ينتجها التليفزيون بالكامل على شاشته فقط، ولكن لأنه حقق نجاحا جماهيريا كبيرا، وقيل إن عدد مشاهديه وصل إلى 2 مليون شخص.
بدأ عرض ناصر 56 تجاريا يوم 3 أغسطس 1996، في الذكرى الأربعين وقتها لتأميم قناة السويس، وأتذكر أنني شاهدته في الإسكندرية، ولم تكن القاعة ممتلئة فقط، بل تفاعل الحضور مع نهاية الفيلم، وهتفوا مع الزعيم الراحل جمال عبدالناصر (أحمد زكي) “الله أكبر” حين صعد على منبر الجامع الأزهر ليدعو إلى المقاومة والتصدي لعدوان 1956 الثلاثي، كما صفقوا طويلا.
نجح مسئولو الإنتاج في التليفزيون وقتها، وعلى رأسهم المنتج الفني الراحل ممدوح الليثي، في تحقيق حلم النجم الكبير الراحل أحمد زكي بتجسيد الزعيم ناصر في عمل كبير.
وأهلوا الفيلم جيدا لخوض المنافسة التجارية، فقاموا بتحميضه وطبعه في معامل “رانك” في لندن إلى جانب معامل ستوديو مصر، كما تم إجراء المكساج في ستوديو “باين وود” في لندن، وتمت الاستعانة بالعديد من الفنيين الأجانب المهرة، ومنهم: مارينا أجوبيان في الماكياج، ومايك كارتر في المكساج، وسيلفيا هويلر في مونتاج النيجاتيف إلى جانب وداد راغب.
لا يمكن تفسير نجاح الفيلم بالشعبية الكاسحة للزعيم الراحل فقط، فهناك العديد من الأفلام التي أٌنتجت عن حياته وأعماله ولاقت الفشل الذريع.. في رأيي، يكمن السر في نجاح “ناصر 56″، إلى جانب جودته الفنية وجماهيرية وأداء أحمد زكي، في ربط دوافع ومنطلقات وقناعات الزعيم الراحل بأحلام وطموحات المواطنين البسطاء الذين كان منهم، وقام مشروعه كله على الالتحام بهم والدفاع عنهم والعمل من أجلهم.
وللتعبير عن هذا الربط، وضع الكاتب الكبير محفوظ عبدالرحمن، مؤلف العمل، إطارا دراميا قويا لفيلمه يتشكل – بالأساس – من مشهدين محوريين يكشفان دور وأهمية المواطن البسيط عند ناصر، أحدهما في بدايات الفيلم، والآخر قرب نهايته.
في الأول، عند الدقيقة الثامنة من بداية الفيلم، يقتحم المواطن حامد عدلي الجميل احتفالية رفع علم مصر -في 18 يونيو 1956- على قاعدة بورسعيد البحرية، آخر موقع خرجت منه قوات الاحتلال البريطاني.. وبعد أن يسمح له الزعيم بالاقتراب، يحكي له كيف تم تعيينه عام 1937 في شركة القناة بنصف راتب زميله البلجيكي، رغم أنهما يتمتعان بنفس الكفاءة ويحملان نفس الشهادات، ويشكو له رفته من الشركة لاعتراضه على التفرقة بين الأجانب والمصريين في بلدهم، وتعجبه من عدم السماح للمصريين – بمن فيهم المحافظ – بدخول نادي الشركة المقام على أراضيهم.
ويدور الحوار البليغ – والمؤثر – التالي بين المواطن والزعيم:
– تقدر ترجعني يا ريّس؟
– طيب إيه رأيك تيجي تشتغل معانا في مصر؟
– أمال احنا هنا فين؟
هنا اللحظة الكاشفة التي يدرك فيها ناصر، ليس فقط أن شركة القناة أصبحت دولة داخل الدولة المصرية، ولكن أيضا أنه عاجز عن مجرد إعادة مواطن تم رفته ظلما في بلده إلى عمله.
وربما هنا أيضا تُولد فكرة تأميم القناة، إلى جانب لحظات أخرى تشارك في دفعه لاتخاذ القرار، منها أنه يلمح في بداية الفيلم – أثناء رفعه علم مصر على قاعدة بورسعيد البحرية – علم شركة القناة يرفرف على إحدى السفن، وكأن هناك علمين، ورمزين، في بلد واحد.. كما يرسخ السيناريست الفكرة بجملة حوار على لسان إحدى الشخصيات تقول: “العلم اترفع على مصر إنما قناة السويس مش مصر”.
أما المشهد الثاني، فيدور بعد 100 دقيقة بالضبط من المشهد الأول، في الدقيقة 108، قرب نهاية الفيلم الذي يبلغ طوله 145 دقيقة، وكأن المشهدين قوسان يحيطان بالفيلم ويبرزان حدوده ويضبطان بوصلته نحو المواطن البسيط.
في ذلك المشهد، تصر أميمة أحمد الكحّال على مقابلة الزعيم، وتلف وراءه من الإسماعيلية إلى الإسكندرية إلى القاهرة، وعندما تقابله تحكي له قصة جدها الذي أخذوه في السخرة بدعوى شق ترعة في الشام، ثم اكتشف أن الغرض الحقيقي كان حفر قناة السويس، ومات قتيلا أثناء الحفر، وعاد أحد زملائه بجلبابه المخضب بالدماء إلى أسرته.
وتقرر أميمة إهداء الجلباب إلى ناصر بعد قراره تأميم القناة لأنه الأحق به، قائلة لنفسها – في جملة حوار بليغة أخرى: “اللي عمله جمال ده خد التار ليكي ولألوف زيك جدودهم ماتوا في الحفر ودمهم جري في القنال قبل ما تجري الميّ”.
ولأهمية المشهدين، عهد المخرج محمد فاضل بأدائهما، أمام زكي، لممثليْن قديريْن: الكبير الراحل حسن حسني في المشهد الأول، والكبيرة الراحلة أمينة رزق في الثاني.
من أسباب نجاح الفيلم أيضا، الاختيارات الفنية الموفقة لصناعه، وعلى رأسها عدم الوقوع في فخ تناول سيرة ومسيرة جمال عبد الناصر كلها، وعدم الانزلاق إلى إصدار أي أحكام إيجابية أو سلبية عليه، والاكتفاء بتكثيف أحداث أربعة أشهر ونصف الشهر فقط من حياة هذا الزعيم الخالد، من مولد الفكرة يوم رفع علم مصر على قاعدة بورسعيد البحرية في 18 يونيو 1956 إلى خطاب الجامع الأزهر في 2 نوفمبر 1956، مرورا بإعلان قرار التأميم نفسه في خطاب المنشية الشهير يوم 26 يوليو من نفس العام.
هناك أيضا قرار فاضل الموفق بتصوير الفيلم بالأبيض والأسود، ليس فقط للإيحاء بالفترة الزمنية، ولكن أيضا لتحقيق التناغم والوحدة بين مشاهد الفيلم المصورة ولقطات الأرشيف السينمائي، والتي نجح المخرج في الحصول على الكثير منها بجودة عالية، سواء محليا أو أوروبيا، خاصة مشاهد استقبال ناصر في يوجوسلافيا، التي زارها في 19 يوليو 1956 لحضور اجتماع زعماء حركة عدم الانحياز بمدينة “بريوني”.
وأبسط دليل على الاهتمام الفائق بالتصوير في “ناصر 56″، قيام ثلاثة فنانين دفعة واحدة بإدارته، في سابقة نادرة بصناعة السينما المصرية، وهم: عبد اللطيف فهمي وعصام فريد وإبراهيم صالح، فيما تولى فهمي منفردا الإشراف على طبع الفيلم.