نقد

“لا جراتزيا”.. قصيدة وداع الرئيس بين العفو وألم الخيانة

مصطفى الكيلاني

في مهرجان الجونة وجدت نفسي مع عدد غير قليل نشاهد رائعة باولو سورنتينو لاجراتزيا “العفو” وخرجت من السينما ووجدت نفسي أقوم بإلغاء تذكرة الفيلم التالي، لكيلا أخرج من الحالة الشعورية الجميلة التي وجدنا أنفسنا فيها بعد مشاهدة تلك التحفة السينمائية الرائعة.

سورنتينو عاد مع ممثله المفضل توني سيرفيلو الذي قدم معه تحفته “الجمال العظيم” وكذلك الفيلم الرائع “يد الله” وكان نجاحهما الأول في “إل ديفو”، ليقدم لنا واحدا من أفضل سيناريوهاته، متمسكا بقدرته على تقديم الكثير من التفاصيل برقة وحساسية.

بعد مشهد الافتتاح الذي يضعنا في قلب حياة الرئيس ماريانو دي سانتيس، القاضي السابق، الذي يستعد لمغادرة السلطة بعد 6 شهور،  تبدأ رحلة التأمل في معنى السلطة، والعزلة التي تصاحبها. لا يقدم سورنتينو بطله كرمز سياسي جامد، بل ككائن هش، يتآكل ببطء بين ثقل القرار العام وفراغ الحياة الخاصة. وهنا يتجلى توني سيرفيلو في أحد أعظم أدواره، حيث يجعلنا نسمع الصمت أكثر مما نسمع الحوار، ونشعر بأزمة السلطة والعمر والانطفاء من نظرة عينيه.

يستخدم سورنتينو البنية السياسية للفيلم كإطار روحي لمعركة داخلية بين الإيمان والرحمة، بين الواجب والندم. كل لقطة في “لا جراتزيا” تبدو وكأنها صلاة معلقة بين الأرض والسماء، تتأرجح بين الواقعية الإيطالية الحادة والرؤى الشعرية التي اعتدناها من المخرج منذ “الجمال العظيم”. الجمال هنا أكثر نضجا وهدوءا، يقطر حزنا وحنينا، لكنه لا يفقد دهشته البصرية ولا حسه الساخر من عبث العالم.

فيلم لاجراتزيا لسورينتينو
فيلم لاجراتزيا لسورينتينو

المشهد الذي يزور فيه دي سانتيس أحد السجون ليس فقط أحد أعظم لحظات الفيلم، بل من أقوى ما قدم سورنتينو في مسيرته. لا حوار تقريبا، فقط كاميرا ثابتة تتنفس مع وجوه الناس، الذين يشاهدون رئيسهم، القاضي السابق، يجلس معهم في غرفة الانتظار العامة، والضوء الذي يمر عبر الزجاج السميك. يترك المخرج للمتفرج أن يقرأ في الوجوه معنى العفو، ومعنى الذنب، ومعنى أن تظل إنسانا رغم كل شيء.

يبرع سورنتينو أيضا في خلق نغمة موسيقية موازية، تشارك في السرد بفاعلية. الإيقاعات الإلكترونية التي تتسلل في لحظات التأمل، ثم تختفي في صمت، ليست عبثا صوتيا، بل محاولة لتجسيد التصادم بين القديم والجديد، بين الزمن الذي مضى والزمن الذي لا يزال يحاول أن يجد له معنى، بين أزمته كرئيس يستعد لمغادرة منصبه، وحبيب يعيش دائما على ذكرى زوجته “أورورا” التي خانته من 40 عاما، ولكن الجرح لا يزال مفتوحا في عمر لا يملك منه سوى الذكريات.

فيلم لاجراتزيا لسورينتينو
فيلم لاجراتزيا لسورينتينو

يبني سورنتينو السيناريو الخاص به على فكرة العفو أو الغفران، وهنا رئيس الجمهورية بين أزمته الخاصة ورفضه المغفرة لزوجته الراحلة، وبين قانون الموت الرحيم الذي تعده ابنته التي ورثت عنه القانون والصرامة، وقراري العفو عن سيدة قتلت زوجها الذي يعذبها مرارا، ورجل قتل زوجته مريضة الزهايمر.

أورورا هي المحرك الرئيسي لكل مشاعر القاضي، وهي مصدر عذابه، وأيضا وثيقه غفرانه، أورورا التي هي الشفق القطبي أو اسم الأميرة في “الجميلة النائمة”، فهي أيضا نائمة في سباتها الأبدي وتركته ينتظر منها المبرر لخيانتها.

فيلم لاجراتزيا لسورينتينو
فيلم لاجراتزيا لسورينتينو

السيناريو مشغول بعناية، لا يسعى إلى إجابات بقدر ما يطرح تساؤلات حول فكرة “العفو” نفسه. هل الغفران فعل بشري أم إلهي؟ هل الرحمة ضعف أم حكمة؟ وهل يستطيع من يحمل عبء القرار أن ينجو من نفسه بعد أن يتخلى عن السلطة؟ هذه الأسئلة لا تقال صراحة، لكنها تنساب بين الجمل الصامتة والنظرات الطويلة، في فيلم أشبه بمناجاة أخيرة بين رجل وربه، وبين مخرج وسينماه.

وفي لحظاته الأخيرة، حين يغادر دي سانتيس المشهد السياسي متجها إلى وحدته الكاملة، نكتشف أن “لا جراتزيا” ليس عن رئيس جمهورية، بل عن إنسان يواجه النهاية بكرامة. إنها ليست نهاية سياسية، بل روحانية. لحظة يضع فيها سورنتينو السينما في خدمة الغفران، ويجعل من الصورة مرآة للتطهر.

هكذا يعود باولو سورنتينو إلى ذروة إبداعه، لا بالضجيج ولا بالاستعراض، بل بالسكينة التي لا يبلغها إلا من تصالح مع فكرة الرحيل.

فيلم لاجراتزيا لسورينتينو
فيلم لاجراتزيا لسورينتينو

“لا جراتزيا” ليس مجرد فيلم عن السياسة أو الدين، بل قصيدة عن الإنسان عندما يواجه نفسه للمرة الأخيرة، عن تلك النعمة التي تمنحها الحياة لمن تأخر في فهمها، لكنها تمنحها في النهاية، وهنا التلاعب في اختيار اسم الفيلم، فالكلمة لها أكثر من معنى مرتبط بالنعمة، أو الشكر أو الغفران أو العفو، جميع تلك المعاني تناولها السيناريو وكأنه يحتفي بتعدد مترادفاته.

في سياق مسيرة باولو سورنتينو، يبدو “لا جراتزيا” وكأنه عودة إلى الجوهر الأول الذي انطلق منه، ولكن بعين أكثر حكمة وتجردا. إذا كان “الجمال العظيم” هو تأمل في فراغ الحياة الاجتماعية والسياسية في روما، فإن “العفو” هو تأمل في فراغ الروح حين تفرغ من السلطة. وإذا كان “يد الله” رحلة في الحنين إلى الطفولة والبحث عن المعنى وسط الألم، فإن “لا جراتزيا” هو الوجه الآخر لذلك رحلة في الشيخوخة، وفي الوداع الهادئ للحياة العامة، وفي القبول الصامت لما لم يعد ممكنا تغييره.

فيلم لاجراتزيا لسورينتينو
فيلم لاجراتزيا لسورينتينو

يستعيد سورنتينو هنا كل عناصر لغته البصرية المميزة: الحركات البطيئة، الإضاءة المترددة بين النور والظلال، التكوينات المرسومة بدقة تكاد تقترب من التصوير الفوتوغرافي الكلاسيكي، لكنه في الوقت نفسه يتخلى عن جزء من الزخرف البصري لصالح بساطة أكثر صدقا. كل شيء في الفيلم يخضع لمزاج التأمل، حتى لحظات السخرية الصغيرة تحمل مرارة النهايات.

إنه فيلم عن الرحمة بقدر ما هو عن العزلة، عن الكرامة في زمن يسهل فيه الانحدار إلى الابتذال، وعن الإنسان الذي يكتشف أن خلاصه لا يأتي من السلطة، بل من الغفران. وربما لهذا السبب، يعد “لا جراتزيا” أعظم أفلام سورنتينو من حيث النضج الإنساني، لأنه لا يحاول أن يبهرنا كما فعل في “الجمال العظيم”، بل يجعلنا ننصت إليه، ونصمت معه، ونتنفس ببطء كمن خرج للتو من صلاة طويلة.

وفي مشهده الأخير، حين يختفي الرئيس في الأفق الإيطالي الغائم، ويغمر الضوء الأبيض الشاشة، لا نرى نهاية، بل نوعا من العفو السينمائي “النعمة” التي وعدنا بها أحد معاني عنوان الفيلم. نعمة الهدوء، ونعمة الغفران، ونعمة أن يظل الفن قادرا على تذكيرنا بأن الجمال لا يزال ممكنا، حتى في أكثر اللحظات حزنا.

فيلم لاجراتزيا لسورينتينو
فيلم لاجراتزيا لسورينتينو

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى