بين “لام شمسية” وفيلم POOR THINGS.. الأطفال لن تقول “لا”

عصمت المصطفى
يَحمل الفنّان في يديه ريشة يستطيع بها أن ينحت تصوّرًا وإدراكًا لواقع نعيشه، لكنه يُعكسه لنا من خياله، خيالُه هذا الذي تَشكَّل في واقع يُعايشه، وبنَفسيته التي تتلقّاه، والذي عكَسه له خيال فنّان آخر… فالواقع إذًا مُتوالية فنّية لا تنتهي.وهنا يأتي “لام شمسية” ليفتح ملفات “واقعيّة” مسكوتًا عنها، أو بتعبير المخرج كريم الشنّاوي للطفل الموهوب علي البيلي: “أن نصبح صوتًا لمن لا صوتَ له”.

قضية البيدوفيليا، أو الانجذاب الجنسيّ للأطفال، قضية قلّما يتمّ عرضها بوضوحٍ على الشاشات العربيّة إعلاميًّا أو فنّيًّا، لكنّ الواقع بالغ مؤخرًا في عرض الكثير من الحوادث التي حدث بعضُها في نور الشمس.
عندما وجد الجناة والمعتدون أنّ الفنّ لم يتحدّث عنهم خوفًا أو تنزّهًا وترفّعًا عن الواقع، بالغوا في ارتكابِ جرائمَ مُخجلة في المساجد ودورِ العبادة والشوارع، هكذا علنًا في وضحِ النهار.
ويَسألُ السائلُ هنا: لماذا لم يردعهم وجود القانون والدين والعادات والتقاليد؟
بإجابةٍ بسيطةٍ جدًّا: أنّ هناك جنديًّا مهمًّا غائبًا عن معركة تشكيل الوعي في هذه القضيَّة الإنسانيَّة، وهو “الفنّ”.
في سرديّة “لام شمسية”، تَمتلئ الحكاية بالرموز والتفاصيل، بدءًا من عنوانه الذي يحمل معنى الأشياء المسكوت عنها، وصولًا لمشاهد مليئة بالرّمزيّات، ثم البوستر الترويجيّ للمسلسل، الذي نفّذ مهمّة الفنّ الأولى والأخيرة… وهي طرح الأسئلة.
فـ”الفنّ أداةٌ لطرحِ الأسئلة، لا لتقديمِ الأجوبة”، كما قال جورج أورويل.
فإذا أدركتَ كمشاهد وجود هذا الرمز، ثم تساءلت عن معناه، فأنتَ بشكلٍ أو بآخر شريك في الحكاية، ومسؤول عن التفسير والإجابة.
مسؤوليّة كبيرة تُلقى على عاتقِ المتلقّي، ويَبقى تفسيرُها مسؤوليّته، وهنا يستطيعُ الفنّانُ – إذا أراد – أن يرفع ريشته عاليًا في وضعيّة تسليم، ليقول لنا: “إنتَ اللي فهمت ده”، ويُخلي مسؤوليّته وينفض يديه.

مشاهدةُ “لام شمسية” في رمضان، أرجعَت لي ذاكرةً ليست ببعيدةٍ، عندما شاهدت لأوّل مرّة فيلم الخيال “Poor Things” للمخرج يورجوس لانثيموس، وبطولة إيما ستون.
الفيلم الذي ضجّ العالم وقتها في 2023 ببراعته الفنّيّة، وبساطته، وعالمه المُلوَّن وجرأتِه، والذي يغلب على الفيلم اللونُ الأزرقُ – على ما أتذكّر.
لمن لا يعرفه ولم يُسعفه الحظ لمشاهدته، فهو ببساطة، وبشكل خياليّ، يَحكي عن فتاة شابّة عاقلة تُدعى “بيلا”، يقوم فرانكشتاين – العالِم المجنون – بزرع عقل طفل صغير في رأسها، على الطريقة العلميّة المعروفة في فيلم “اللي بالي بالك”.
“بيلا” ستعيشُ حياتَها في جسد فتاة بالغة، لكن بوعي طفلة، تُفكّر كالأطفال، تتكلّم مثلهم، تشعر بنفس شعورهم، ورغباتُها أيضًا رغبات أطفال -كما أراد المخرج أن يوحي لنا-
سيمنحها المخرج يورجوس لانثيموس الحرّيّة المُطلقة في أن تُعبّر عن نفسِها وعن رغباتِها بدون قيود، لا مجتمعيّة ولا مهلبيّة..
لكن، كيف ستُعبّر “بيلا” الطفلة في جسدِ المرأة الشابّة عن رغباتِها؟
بالكثير والكثير من الجنس، على المركب، وفي الأزقّة، وفي الحانة، وداخل الخوامير.
ليس هذا فقط… فـ”بيلا” مُستمتعة، ومُنتشية، وتَرغب في المزيد، فـ”بيلا” لا تكتفي من الرجال!
وهنا نسأل هل “بيلا” هنا، التي تستمتع بالجنس مع الرجال، تُعبّر عن رغبات عقل الطفلة أم رغباتِ بيلا في جسد المرأة؟
سؤالُ متلقٍّ مثلي، لرمزيّة فنّيّة يستطيع فيها صُنّاع العمل أن يَرفعوا أيديهم ويُخبِروني بأني أنا من فَهِم ذلك، وهذه ليست مسؤوليّتَهم!
ببساطة، كلُّ ما طُبِع في عقلي عند مشاهدةِ تصرّفات “بيلا”، بأنّ الأطفال لن يقولوا “لا” في حال أُتيحت لهم الفرصةُ لذلك، نحن فقط الذين لا نمنحهم الفرصةَ للتعبيرِ عن رغباتِهم.
وخاصةً أنّ الفيلم كان قد عُرِض في توقيت ليس ببعيد عن فضيحةِ (جزيرة إبستين) واستغلال الأطفال.
لكن، بالرغم من ذلك، لم أجد الكثير قد لاحظ ما لاحظتُه، لدرجةٍ أنّه قد راودني الشكُّ: هل أُبالغ في رؤيتي؟ أو ببساطة، الواقع المنطبع في خيالي جعلني أُصوّر رمزيّة المخرج الغربيّ بهذا الشكل المُريب؟

لكني في “لام شمسية”، تأكّدت بأنّ طرح مواضيع تَمسّ الواقع يحتاج للكثيرِ من الحذر… ليس المنع، وليس التخويفَ، أونشر الخوف، ولكن المسؤولية!
وأن تأخذ على عاتقِك كفنّان بأنك تُساعد في تشكيل الوعي الإنسانيّ بدرجة تفوق الدين والقانون والعادات والتقاليد.
فعندما تتصدّى لقضيّة إنسانيّة، وتترك الساحة لآخرين يُمتِعونا بقصص هدفُها المُتعة والإثارة – وهو هدف الفنّ الأوّل: المُتعة، المُحمَّلة برسائل، أو بدون أي رسالة
فإذا قررت طواعية حملَ رسالة، أرجوك… إحملها بأمانة ومسؤوليّة ووعيّ.
