فيلم “خريف التفاح” لمحمد مفتكر.. ليس فرجة بل رسالة
لحسن العسبي
يحتاج فيلم المخرج المغربي المبدع محمد مفتكر “خريف التفاح” (النازل هذا الأسبوع إلى قاعات العرض السينمائي بالمغرب) إلى أكثر من مشاهدة واحدة، لأنه تحفة فنية مركبة، تلزمك بتفكيك وئيد لمستويات الصنعة الفنية المتحققة فيه.
لابد من تسجيل حقيقة أولية هي أنه فيلم متعب. بل متعب جدا. كونه لا يهبك المعنى بيسر، بل إنه يلزمك ببدل مجهود تواصلي، واجبٌ في كل عمل فني يحترم شروط الصنعة السينمائية. فهو ليس “فراجة” قدر أنه “رسالة”. رسالة عن زمن، عن حالة، عن انحباس جيلي، هوياتي، مجالي، وانسحاق للشرط الإنساني في فضاء حياة اسمه “المغرب”.
كل الرسالة تلك في فيلم “خريف الفتاح” كامنة في صورة الملك الوطني محمد الخامس المعلقة على جدار بيت الجد. فزمن الإحالة يأخذنا إلى زمن “الوطنية” زمن “الآمال الكبار” في التقدم والنماء والحرية. وفي مكان ما كما لو أن شخوص الحكاية غاصت أقدامها في “عزلة الزمن” ذاك الذي يقص الأجنحة ولا يسمح بتحقيق الرضى ويطحن الأحلام العظام.
إن الرضى على الذات وعلى الآخرين، تيمة أخرى هائلة في الفيلم. فكل أبطاله يعيشون أزمة رضى. فلا الطفل (سليمان) راض بالزمن النفسي وجدانيا بامتداده العائلي، ولا الأم (عائشة) راضية على وضعها كأنثى يحق لها الفرح بالحياة واستحقاق سرير معنى فيها واستحقاق أمومة، ولا الأب (عمر) راض على سلالته في أزمة ثقة مدمرة جعلته يشك في نسبه.
فيما الجد والجدة وحدهما الأشبه برمانة الميزان يقاومان بيأس وتعب وقلة صحة لصيانة المعنى وتجديد بطاريات الثقة بين الأب والأب والأم (الجد محارب قديم باردة نياشينه).
لا يهبك فيلم “خريف الفتاح” نفسه بسهولة “الفرجة” الاستهلاكية، كونه لم يعتمد سهولة “الحوار” كآلية تؤطر المتفرج (في الحقيقة تدجنه وتكذب عليه)، قدر استفزازه لملكة انتباه المتفرج على مستويات أخرى للخطاب السينمائي تلك الكامنة في اللعب بالتصوير وملامح وجوه الأبطال وحركات الأجساد المتعبة، وظلال الحيطان وغبش الظلمات والصخر الناتئ للجبال.
وأعطاب المشي في الطريق غير المعبدة، وسبورة الدرس بالقسم الأشبه بحفريات قديمة.. ثم رسالة “الدائرة” في درس المعلم لتلاميذه المتعبين (المنطفئة جدوة الأمل في الحياة بعيونهم). حيث يعلمنا أخيرا الحوار كتقنية سينمائية في جملة قفل تكاد تكون تلخيصا لكل غائية فيلم مفتكر، أن:
“الدائرة هي أرقى الأشكال الهندسية، لأنها تبتدأ من نقطة وتعود إليها. والحكمة كامنة في الطريق بين النقطتين كيف تقطعها أنت كإنسان”.
تكاد تكون تلك “الدائرة” هي ثنائية الميلاد والموت. تبدأ الحياة من نطفة وعلقة بداياتها من التراب وتنتهي بالموت إلى التراب (هنا المعنى الدال لمشهد الجد والأم والأب والابن جلوسا فيما يشبه الخواء أمام قبر الجدة).
ولأن منطق الحياة منتصر على كل حال (معنى الأمل والتشبث به كشرط للإنسان)، كان لا بد من مشهد ثان آسر للجد والأم والابن على ضفاف نهر ماء جار في مشهد للخصب. فكان تقابل المعنى بين رسالتين في الفيلم بدون كلام أو حوار قدر تقابل بين مشهدين بلغة السينما في توابلها الرفيعة.
ما هو مؤكد هو أن محمد مفتكر لا يقوم أبدا بالعمل “الكسول” في السينما. بل إنه يبني تركيبا فنيا سيدوم ويبقى.. فاللوحة قد لا تفوز بالفهم سوى بعد عتاقتها.. فهو يُنتجُ للزمن آلات في مكان ما.. أي أنه يخاطب جمهورا آخر هناك في كوكب بعيد للسينما كفن، لا حدود له.
أي أنه يخاطب الإنسان باختلاف ألسنه ومرجعياته وذائقاته الفنية في مختلف قارات الفرجة بالعالم.. بهذا المعنى فإن مفتكر حين يبدع سينمائيا فهو يخاطب الإنسان بالمشترك الفني في تلك الصنعة وليس فقط بباب “الحوار” واللغة.. ذلك أن لغته هو تقنية عالية، تماما مثل الموسيقى، كونيتها كامنة ليس في الغناء بل في انسيابية النوتة وشدو اللحن.
إن من ينتظر من فيلم “خريف الفتاح” (العنوان وحده يقوم بابا مستقلا للقراءة والتحليل) أن يمنحه مجرد “فرجة” عليه ألا يتعب نفسه بالذهاب إلى قاعات السينما لمشاهدته، فهو فيلم يخاطب أبعادا أخرى في الإنسان، ذلك الكائن الهش، المثقل بالقلق، التائه بعيدا عن الرضى على الذات، الفاقد لبوصلة المعاني.
بالتالي، كل من يريد أن يدخل إلى ظلمة قاعة السينما لمشاهدة الفيلم ليخرج منها مصابا بلوثة قلق السؤال، بقدح ملكة التفكير فيه وفي شرطه الإنساني، في تمثل معنى “أزمة الهوية” مغربيا.
أي أن يخرج آخر غير الذي دخل إلى القاعة، عليه أن يسرع إلى قاعات السينما للتمتع بهذا الفيلم وبمستوى عال للصنعة السينمائية مغربية الهوية وإنسانية الأبعاد
قال محمد مفتكر إن فيلمه “مختلف”، هو يكاد يقول إنه “غير مؤتلف”، بالمعنى الذي يفيد أنه لا نظائر له فنيا ضمن ريبرتوار السينما المغربية. حتى والحقيقة الناصعة هي أن فيلم “خريف التفاح” مزلزل لأنه يلزمنا بالانتباه للغة السينما فيه.
إذ حتى قضم تفاحة (ما فعلته الأم عائشة أمام ابنها سليمان) هو كناية عن قدر ضياع الجنة في قصتنا الجماعية المعلومة. فلا شئ متروك للعبث في فيلم محمد مفتكر، بالشكل الذي يجعل كل حواس انتباهك متيقظة.
ذلك ما قصدته حين قلت من قبل إنه فيلمٌ مُتعِبٌ. لكن المشكلة كامنة في أنه تعبٌ يحقق لذة المشاهدة بمسافات. فالسينما ليست “فراجة”، السينما رسالة عبر تقنيات صنعة واجبة.
ولأن شروطها متحققة بدرجات عالية في فيلم محمد مفتكر فإننا كما لو أعدنا اكتشاف ممثلين مغاربة كنا نعتقد أننا نعرفهم كفاية (نعيمة المشرقي، محمد التسولي، فاطمة خير، سعد التسولي، أيوب اليوسفي، حسن بديدة).
المقال نشر سابقا في موقع أنفاس بريس