وعملت إيه فينا التكنولوجيا؟ حول Black Mirrors بمواسمه السبعة

عصمت المصطفى
المرآة السوداء هي الشاشة؛ تلك التي تُطفأ بعد استخدام جهازك الإلكتروني، فيصبح سطحها أسود، وتلمح فيه انعكاسك… كأنك ترى ظلك.
هذا الظل الذي تحدّث عنه عالم النفس السويسري كارل يونغ، وقال إنه يسكن في داخل كل إنسان. لا يُرى بالعين، ولا يظهر في المرايا، لكنه يكشف عن نفسه في لحظات الغضب، أو الخوف، أو عند التعرّض للخطر.
هو ذاك الجزء المدفون في أعماقنا تحت طبقات التربية، والتهذيب، وقوانين المجتمع.
يمثّل كل ما نحاول كبته، ونخجل من الإفصاح عنه؛ الرغبات المرفوضة، والأفكار غير الأخلاقية، والاندفاعات التي نحاول جاهدين إنكارها.
لكن هذا الظل -الجانب المظلم- لا يختفي بل يختبئ، يظل حاضرًا في الداخل، ينتظر لحظة الاختبار ليعلن عن نفسه.
ويقول يونغ: “لا يظهر الظل إلا عندما يشعر الإنسان بأن صورته أو كيانه مهددان، حين يُدفع إلى حافة القرار”
اللحظة التي تُسمى في الدراما: Moral Dilemma
فالمعضلة الأخلاقية “Moral Dilemma” هي عندما يتعرض البطل لخيارات متعارضة ، وعليه أن يختار فيحدث في داخله الصراع الداخلي..
مثلا عليه أن يختار بين ماهو صحيح أخلاقياً وبين ماهو في مصلحته… شئ شبيه لما يحدث معنا يوميًا في حياتنا
عندما نختار بين خيارين .. نعلن وقتها عن حقيقتنا، التي لا تظهرها إلا الأفعال، فكم منا باح ولاح بحسن الدين والخلق لكن وقت الحقيقة سقط!
وهنا في مسلسل بلاك ميرور “المعضلة الأخلاقية للبطل” تظهر بوضوح سافر و في أقصى درجاتها .. دون خجل يحسب لصناع العمل ..
الحقيقة التي أصدقها أن في حلقات Black Mirror، لم تكن التكنولوجيا هي البطل أو محور القصة – كما يظن الكثيرون – بل كانت فقط “المحفّز” للأحداث ..
سياسة صناع العمل كانت واضحة:
أن يمنح الإنسان قوة مطلقة من خلال تكنولوجيا متقدمة، يضعها بين يديه، ثم يضع عليه ضغطًا إنسانيًا هائلًا…
ويشاهد ماذا سيختار الإنسان في لحظة الضعف الشديد أو القوة المطلقة وكيف ستكون نتيجة اختياره؟! ..
وكأن كل حلقة هي مرآة سوداء… تعكس لنا ما لم نكن نتوقع أبدًا أنه يسكن داخلنا.
فالتقنيات الخيالية المتقدمة في Black Mirror لا تخلق الوحش،
بل فقط… (أزالت القناع) لتكتشف من هو الوحش الحقيقي..
في حلقات كثيرة، يتحوّل الإنسان من ضحية للتكنولوجيا إلى جلاد يستخدمها ليؤذي، يراقب، يبتز، أو ينتقم، وكل ذلك باختياره عندما يتعرض للضغط أو ليستمتع ..
حينها، قد يتصرف الإنسان بطريقة غير مألوفة أو متطرفة، لأنه يكون مدفوعًا بجانب خفيّ في داخله لم يدركه أو يواجهه من قبل.
لذلك كان لمسلسل Black mirror كل هذا التأثير والانتشار، فهو واجهنا بمرآة سوداء، نرى فيها أنفسنا التي ننكرها ونخجل منها.
في حلقة “White Bear” الموسم 2 حلقة 2
تخيّل أن ترتكب جريمة، تقتل طفلًا بدم بارد…
فيكون عقابك أن تعيش، يومًا بعد يوم، واقعة مأساوية تُنهكك نفسيًا؛ تُطارد، تُهان، تُرعب… حتى تتوسل للموت، أو على الأقل، للخلاص.
تظن أنك قد وصلت لنهاية هذا الكابوس، لكن تُفاجأ أن كل شيء كان مجرد عرضًا مسرحياً عايشتها لحظة بلحظة وكأنه حقيقية، وأنك كنت جزءًا من هذه المسرحية التي يعرضها الآخرون على جمهور يتلذذ برؤية (المجرم) يتعذّب كما تعذّبت ضحيته.

قد نتفهم هذا المنطق… (العقاب من جنس العمل)، وربما نعتبره عدلًا مثلاً.
لكن، هل يتوقف الأمر هنا؟
لا.
هنا يظهر “الظل”، ذلك الجزء المظلم من البشر، فالعدالة هنا لا تشبع ولا ترتوي، بل تتحوّل إلى انتقام مستمر، بلا رحمة، و بلا خط نهاية معلن!
كل يوم، يتم مسح ذاكرة المجرمة، وتُعاد نفس التجربة من جديد.
تُعاقب، ثم تنسى، ثم تُعاقب مجددًا… إلى الأبد.

فلو كان الأمر بيدك… لو خُيّرت..
هل تُبقي العقوبة هكذا بلا نهاية، لأنك تؤمن أن الجريمة “لا تُغتفر”؟
أم تمنح المجرم لحظة راحة بعد أن تقتص منه وتعامله بإنسانية ؟
أجب بصراحة… وسترى ظلك.
في حلقة Common people في الموسم السابع، الحلقة الأولى
تخيّل ألا يكون هناك مفر، بعد حادثة مأساوية أفقدتك من تحب، وجعلته عالقًا بين الحياة والموت، فاقدًا جزءًا من وعيه، والعلاج و الحل استخدام تجربة تقنية حديثة لا يعرف أحد عواقبها بعد.
تظهر أمامك شركة بتقنية طبية ثورية، تعدك بزرع أنسجة صناعية في الدماغ، تعطي من تحب وعياً صناعياً تستطيع العيش به،و ستكون متصلة بنظام خارجي، أشبه بشبكات الهواتف الخلوية.
وأن تكملوا حياتكم وقصتكم سويًا، وبدافع الحب، واليأس، يقبل البطل العرض بدلاً من أن يتقبل الفراق. تمامًا كما قال أحد الحكماء ذات مرة: “ما تجرب يا أخي… هو إنت عندك حاجة تخسرها؟ ما إنت خسران كل حاجة.”

كان البطل يظن أن أقصى خساراته هي فقدان زوجته. لكنه لم يعلم أن القاع الحقيقي لم يكن هناك… بل هناك ما هو أسفل منه.
فالشركة، التي وعدت بخدمة مجانية، تبدأ برفع الأسعار تدريجيًا. والزوج، تحت ضغط عاطفي ونفسي هائل، يقرر أن يفعل المستحيل ليلبي قيمة الاشتراكات ويُبقي زوجته على قيد الحياة.
وفي لحظة ضعف شديد، يطبق صناع العمل عليه خلطة ظهور الظل، قوة تكنولوجية خارقة مع ضغط شديد يتمثل هنا بإمكانياته المادية الضعيفة
فيتحول من رجل بسيط طيب، إلى شخص مُشوَّه، يختار بإرادته أن يبيع كرامته. مثلا: أن يشرب بوله في رهانات إلكترونية، فقط ليكسب دقائق إضافية من الوعي لزوجته.

يستمر الضغط حتى يصل إلى نقطة الانهيار، فيفقد القدرة على المقاومة و الاستمرار.
وفي هذه النقطة تحديدًا سيفعل ما لم يكن يتخيله هو نفسه يومًا ما؛ يعبث في نظام الوعي المزروع ليُقنع زوجته، أن تختار الانتحار بنفسها… و هدفه أن يتخلص من ضغط وجود إنسانة مريضة مضطر لرعايتها… حتى لو كان بقائها على قيد الحياة في يوم من الأيام هو أقصى ما يتمناه.

ياترى لو كنا سألناه قبل أن يبدأ هذه التجربة، هل من الممكن أن تقتل زوجتك بسبب الضغط، ماذا تتوقع أن تكون إجابته؟!
لا أظن أنه سيصدق ذلك، فالظل -والجانب المظلم- لا يظهر إلا في ظروف خاصة، و يجعلنا نرى من أنفسنا مالم نكن نتخيله!!
في حلقة Play test الموسم الثالت الحلقة الثانية
أنت مطور ألعاب فيديو، تصمم لعبة لتخلق واقع افتراضي بالكامل، اللاعب فيها يعيش في واقع لا يستطيع فيه أن يفرّق بين الحقيقة والخيال..
يشم، يلمس، يرى، يسمع، ويشعر، وكأنه داخل حدث حقيقي، شئ شبيه بالحلم الذي لا تعرف فيه أنك تحلم..
اللعبة تتسلل إلى أعمق منطقة في عقل اللاعب؛ في ذكرياته، خوفه، و هواجسه المكبوتة.

في هذا العمق تحديدًا، يقبع “الظل”… كوحش حبيس في مخبأه..
صناع الحلقة هذه المرة لم يلتفوا حول المعنى، بل قالوها علانية، سنلعب مع ظلك، سنتعامل مع أعمق، وأحلك، وأشد جوانبك رعبًا، سنرعب ضعفك فنرى أسوا ما تستطيع فعله…
في هذه اللعبة، سترى كل ما تخشاه، وستواجهه بأسوأ نسخة منك؛
نسختك الضعيفة، المرتبكة، المهزوزة.

سؤالي الآن..هل نستطيع أن نتحمل رؤية ظلنا فجأة دون أن نتحطم؟!
في الحلقة البطل مات قبل أن تنتهي اللعبة…
وكما توحي لنا رمزية الحلقة، و التي اتفق معها..
(لا أحد يرى ظله الحقيقي… ويظل حيًا بعد ذلك) ولكني سأضيف
أنك إذا أردت رؤيته والتعرف عليه، يجب أن يكون ذلك تدريجياً حتى تستطيع أن تتحمل التعامل معه..

ربما لا نحتاج إلى تقنية “ريفيرمايند”، ولا إلى ألعاب تحاكي الظل، ولا حتى إلى شاشات سوداء متطورة لنكتشف حقيقتنا.
يكفي أن تضع هاتفك بين يديك، أن تفتح منصة تواصل اجتماعي، أن تتلقى تعليقًا مسيئًا، أو أن ترى نجاح شخص آخر… في هذه اللحظات، سيتحرك الظل..
وهنا اقتبس مقولة عالم النفس السويسري كارل يونغ :
“حتى يصبح ما هو غير واعٍ واعيًا، سيتحكم بنا وسنسميه قَدَرًا.
تعني المقولة ببساطة أننا نحمل بداخلنا مشاعر وأفكار ورغبات لا نعرف مصدرها، وكأنها تصرفات لشخص غريب لا يمت لنا بصلة..

نعتقد كل يوم وفي كل لحظة، أننا نتصرف بوعي كامل وأن تصرفاتنا تنبثق ونحن مدركون تمامًا لأسبابها، لكن في الحقيقة، كثير مما نفعله يوميًا يحركه هذا “الظل” الخفي دون أن نشعر.
مثلاً: شخص يغضب فجأة بشكل مبالغ فيه ولا يعرف لماذا؟!
أو من يكرر نفس الأخطاء في حياته ويظن أن الحظ أو القدر هو السبب… بينما الحقيقة هي أن مشاعر غير محسومة داخله هي التي كانت تقوده طوال الوقت، وكأن شخصًا آخر يفكر ويشعر وأنت تتصرف على هواه..
لا يعني ما ذكرته، أني أخشى مواجهة الظل؛ بل الحقيقة أن اكتشاف الظل هو الخطوة الأولى نحو الحرية.
عندما تدرك هذا الجانب داخلك وتعترف بوجوده دون خوف ودون خجل، ستستطيع أن تتحكم فيه وأن تهذبه لا أن يتحكم هو بك، وتصبح له سيدًا..
فالعبودية للظل هي أصل كل الشر في العالم..

تتعلم كيف تهذب الغضب بدل أن ينفجر، كيف تعترف بالخوف بدل أن تهرب منه، وكيف تحوّل الضعف إلى وعي ونضج.
مرة أخيرة .. في عالم Black Mirror، لم تكن التكنولوجيا سوى أداة… لكنها كشفت أن الشر لم يكن مختبئًا داخل أجهزة وتكنولوجيا متطورة، بل هو يسكن فينا منذ البداية.