مهرجان الأقصر.. أصوات سينمائية واعدة من إفريقيا

عبد الكريم واكريم
قد لا ينْتبِه الكثيرون للطاقات السينمائية الشابة التي تحتويها القارة السمراء، لكن حينما تُتاحُ لك الفرصة لمشاهدة مجموعة من الأفلام الإفريقية القصيرة الحديثة الإنتاج والمُختارة بعناية ستجد أن مستقبل السينما في العديد من الأقطار الإفريقية بخير وقد لا تكمن الإعاقة سوى في طُرُقِ وموارد الإنتاج أما الإبداع فهو موجود.
ولا يَحُزُّ في خاطرك سوى أن بعضا من هؤلاء المخرجين والمخرجات لن تُفتَح في وجوههم أبواب المهرجانات العالمية الكبرى وسُبُلِ الانتشار عالميا نظرا لأسباب ليس من بينها الإبداع بل لحسابات خارج ما هو فني وسينمائي.

كانت مسابقة الفيلم القصير بالدورة 14 من مهرجان الأقصر للسينما الإفريقية التي نُظِّمَتْ مؤخرا فرصة لمشاهدة أعمال سينمائية تتعدَّدُ فيها الرُّؤَى وطرق التناول رغم أن بعضا من التيمات تَكَرّرَت بإلحاح في العديد من هذه الأفلام، كمشاكل الأسرة والعلاقات الزوجية والرغبة في الإنجاب والقمع الذي تُوَاجَهُ به الحركات الاحتجاجية المَطْلَبِيَّة في إفريقيا إضافة لتيمة الحرب وعواقبها الوخيمة.

نفس التيمة ورؤى مختلفة
تناولت أفلام “ليلة عابد” للمخرج الجزائري أنيس جاد و”جريمة ذهنية” للمخرج الغاني ويليام كوغو أجيتي و”أيو” للمخرجتين الكاميرونيتين فرونسواز إيلونغ غوميز و يولاند بونغويلا إيكيل، الرغبة الملحة لحد الهوس لأحد الزوجين في إنجاب طفل، والتي تجعل أسبابا تختلف على حسب وجهات نظر مخرجِي هذه الأفلام تقف دونهم وذلك أو تجعل تحقيق ذلك مُتعسِّرا وصعب المنال.
وقد جاءت هذه الأفلام الثلاثة جد مختلفة في نوعيتها وفي أسلوب وطريقة تناولها لهذا الموضوع، الأمر الذي يؤكد أن التيمة ليست أهم شيء في العمل الإبداعي عامة وفي السينما بالخصوص بل طريقة وشكل التناول وطزاجة وأصالة وِجْهَات النظر.
في فيلم “جريمة ذهنية” تحضُر مرجعيات أفلام التشويق خصوصا سينما هيتشكوك، إذ نشاهد في بداية الفيلم وفي نهايته وبشكل دائري الشخصية الرئيسية وهي تشاهد فيلم “سايكو” (1960) لهيتشكوك الذي سيوحي لها بأفكار قاتلة، لنتفاجأ في النهاية بأننا لم نكن نشاهد سوى استيهاماتها وأن ما كانت تحكيه عبر الصوت الخارجي “الفوا أوف” لم يكن سوى من وحي خيالها وبدافع من نفسيتها المهزومة التي تجعلها تتمنَّى لو تقتل من يظلمها لكنها لا تفعل ذلك حقيقة.

في فيلم “ليلة عابد” يحضر الجانب الاجتماعي في التناول، بحيث يواجه عابد الذي يعاني من مشاكل اجتماعية ومادية أثناء فترة حمل زوجته التي تُشْرِف على وضع جنينها الأول، بحيث يصبح مهووسا بطفله القادم وبوضعية زوجته الحامل.

أما فيلم “أيو” فهو عن امرأة شابة تساعد أمها في توليد النساء، لكنها لا تلد رغم الرغبة المُلِحَّة لزوجها في إنجاب طفل إضافة لضغط والديه الذي يصل لدرجة المواجهة مع أم “أيو”، لكن المخرجتين تختاران التركيز على ضرورة الاختيار الشخصي الذي لا يعلو عليه أي سبب أو دافع آخر حتى ولو كان مخالفا لمتطلبات ورغبات وضغوط المجتمع، وضد إرضاء أي كان حتى شريك الحياة، إذ أن “أيو” تَصدُمُ الكل بإعلانها في النهاية أنها هي من قررت عدم الإنجاب بلجوئها لتلقيح دوري يمكنها من ذلك.
“أيو” فيلم نسوي يُمَجِّد الاختيارات الفردية ويُعْلِي من ضرورة احترام قرارات المرأة في الاختيار وجعلها المتحكمة الأولى والأخيرة في جسدها وما يمكن أن يقع فيه من تغييرات بسبب الحمل والولادة.
السياسة والحرب وأشياء أخرى
تنوعت أيضا الأفلام القصيرة الإفريقية المعروضة في مسابقة مهرجان الأقصر من ناحية تناول تيمات تُؤَرِّق المجتمعات الإفريقية والتي تجد لها صدى عند المواطن في أكثر من بلد إفريقي. مواضيع كالرشوة في قطاعات جد مهمة وحساسة كجهاز الأمن، وقمع المظاهرات ذات المطالب الاجتماعية والسياسية.
ومن بين الأفلام التي ذهبت في هذا المنحى فيلم “تحميل” للمخرج التونسي أنيس الأسود الفائز بجائزة لجنة التحكيم، الذي يُدين تصرفات رجال الأمن بعد الثورة التي جاءت للاحتجاج على مثلها لتعود بعد ذلك بشكل أكثر صفاقة واحتقارا للمواطن.
إذ يُدِينُ المخرج من خلال سيناريو مُحكم الكِتَابَة تحرش رجال الأمن بالمواطنين وابتزازهم في الشارع العام، من خلال حالة مواطن يتم توقيفه من طرف شرطي مرور ليضطر لرشوته كي لا يُسجِّل ضده مخالفة، لكن الأمر سيتطور بعد أن يُصوِّره وهو يبتز أناسا آخرين ويقرر أن يلجأ للطرق القانونية، لكن رجال الشرطة الآخرين يتضامنون مع زميلهم، ليضع أنيس الأسود أصبعه على فساد جهاز كامل عوض التركيز على حالة فردية فقط.

أما المخرج الغاني بيسمارك أريي فيتابع في فيلمه الوثائقي القصير “حماية الاحتجاج” تاريخ وتطور المظاهرات والاحتجاجات الاجتماعية والسياسية في غانا ودورها المهم في تشكيل الوعي السياسي والاجتماعي في هذا البلد.

تكثيف وشاعرية
جاء فيلم “رسائل” للمخرج السوداني علي أحمد بابكر البالغة مدته ثماني دقائق فقط والحائز على الجائزة الكبرى بمهرجان الأقصر، الأكثر مطابقة لمواصفات ومعايير الفيلم القصير من كل الأفلام المشاركة، بتصويره لحالة يتداخل فيها ماهو إنساني واجتماعي بلغة سينمائية مُكثَّفة تلعب فيها كل لقطة دور اللَّبِنَة في صرح محكم الْبِنَاء من خلال لقطات ثابتة أسَّسَ من خلالها المخرج سرده السينمائي في لعبة الإخفاء والإظهار وبأسلوب يتقاطع فيه السينمائي بالأدبي بشكل شاعري يُنْبِأ عن مَقْدَمِ مُخرِج متمكن من أدواته السينمائية.
ويَظْهَر هذا بالخصوص في اللقطات التي تُصَوِّرُ وجه الشخصية في البداية من جزئه السُّفْلِي فقط، إذ لا نعلم أنه أعمى إلا حين إشراف الفيلم على نهايته .وقد زاد استعمال الأبيض والأسود من شاعرية الفيلم، إذ أَوْحَى لنا المُخرج أن ما نراه ليس سوى طقوس تتكرَّر كل يوم وباستمرار وبشكل دائري في حياة الشخصية الرئيسية، هذا الأخير الذي لا يريد لهذا التكرار أن يتوقف حتى يظل قابضا على ذكريات حميمية يخاف عليها أن تنمحي من ذاكرته كأعمى لم يعد يبصر سوى من خلالها.
تنويه لفيلمين مغاربيين
حصل فيلما “الشيخة” للمخرج والمخرجة المغربيين أيوب اليونسي وزهوة الراجي و”والدك على الأرجح” للمخرجين الموريتانيين الطيب طلبة وسيدي محمد طلبة على تنويهين خاصين من لجنة التحكيم.
ويتناول الفيلم الأول قصة فتاة شابة تعيش في أسرة مُكَوَّنة من مُغَنِّيَّات فن العيطة التراثي المغربي الأصيل واللواتي يطلق عليهن إسم “الشيخات”، وتجد نفسها منقسمة بين الرغبة في متابعة دراستها أو الاستمرار في نفس نهج حياة أمها وأسرتها في الغناء بالأعراس والمناسبات، خصوصا بعد أن تدخل في علاقة عاطفية مع شاب ينتمي لأسرة غنية سترفض ارتباطهما رغم تمسُّكِهِ الكبير بها، وبعد نجاحها في امتحان الباكالوريا الذي يُمكنها من الالتحاق بالجامعة إن أرادت ذلك.
الفيلم في “حدوثته” عبارة عن “خلي بالك من زوزو” (1972) على الطريقة المغربية، لكن توظيف فن العيطة التراثي العريق أضفى عليه خصوصية مَحلِّية، خصوصا أن مُخْرِجَيْ العمل ضبطا إيقاع فيلمهما بحيث لم يَتُوها في زيادات قد تُعِيق إيقاع الفيلم وتصيبه بالخلل.
أما الفيلم الموريتاني فقد كانت الفراغات التي تَعَمَّد المخرجان تركها لذكاء المشاهد أهم ما ميَّزه، ليأتي من صنف تلك الأعمال السينمائية التي لا تُعطي مفاتيحها سوى للمشاهد الذكي والمُتَمرِّس على المشاهدة المختلفة. إضافة إلى اعتماده الأساسي على لغة الصورة والتعبير بالإيحاء والتلميح عوض الإفصاح عن كل شيء.
من خلال مشاهدة هذا الفيلم وبعض من الأفلام القصيرة الموريتانية الأخرى، يتحَسَّر المتتبع على ظروف السينما في موريتانيا، التي كانت ضيف الدورة 14 من مهرجان الأقصر السينمائي، والتي تعجُّ بشباب سينمائيين مبدعين لايستطيعون المرور لإنجاز أفلامهم الطويلة الأولى نظرا للظروف الصعبة التي تشهدها السينما هناك بحيث تَتَعسَّر عملية الإنتاج وإمكانية إنجاز أفلام بسلاسة وسهولة كما هو الحال في بعض الدول العربية والإفريقية الأخرى.
ثلاث تجارب مختلفة
ثلاثةُ أفلام لفتت الانتباه في الأقصر برؤية مخرجيها المختلفة هي “حجر صحي وراحة” للمخرج الجنوب إفريقي ديفد كبالي، “أغيلهوك” للمخرج المالي أوسمان ساماسيكو و”انعكاسات” للمخرجة النيجيرية نينوها آن أنجوي، والذين يجمع بينها كون مخرجيها مزجوا الواقع بالخيال والاستيهامات بشكل فني مُوفَّق، بحيث أصبح الشكل والمضمون منصهرين في بوثقة واحدة لا يمكن تَصَوُّرُهما منفصلين عن بعضهما.
ففي “انعكاسات” تناولت المخرجة النيجيرية الشابة بذكاء فني تيمة الخلافات بين زوجين شابين أثناء إقامتهما في فندق في أجواء غرائبية تقع في الحدود الفاصلة بين الواقع والفانتازيا السوريالية.
إذ يلتقي الزوجان بزوجين آخرين بعد وصولهما للطريق المسدود وإشرافهما على الطلاق، ليعطيهما هذان الأخيران تصورا لفرصة أخرى تجعل علاقتهما الزوجية تستمر وتستعيد ألَقَهَا، ليظل السؤال مطروحا في آخر الفيلم من هُما الزوجان الآخران وهل كانا موجودين بالفعل أم أنهما انعكاس فقط لتصورهما عن نفسيهما في لحظة تناغم كامل بالمستقبل بعد تجاوز مشاكلهما.

في فيلم “أغيلهوك” عالج المخرج تيمة الحرب في مالي في فترة 2012 بالتحديد بشكل تتداخل فيه قسوة الحرب ونتائجها الكارثية بشاعرية قاسية ومعبرة تجعلنا نستحضر التحفة السينمائية لترانس مالك “الخط الأحمر الرفيع” (1998) والتي تناول فيها المخرج الكبير نفس الموضوع بِنَفَس شاعري يحاكيه المخرج المالي الشاب في فيلمه هذا بشكل فني مقبول.

أما في فيلم “حجر صحي وراحة” فتتداخل في ذهن الشخصية الرئيسية أحداث حقيقية مع استيهامات وهلاوس فرضتها عليه حالة الحجر الصحي والإقامة الجبرية داخل منزله في فترة جائحة كورونا. وقد جاء هذا الفيلم محافظا على معايير نوعية الأفلام البسيكولوجية وتلك التي تدور في فضاء مغلق معا.
