الكراهية.. وسينما التمرد في la haine لماتيو كاستوفيتز
مروان مجدي حبيب
الكراهية.. وسينما التمرد في la haine لماتيو كاستوفيتز
فرنسا، 6 أبريل عام 1993، بأحد مراكز الشرطة بالدائرة الثامنة عشر بباريس، حيث اخترقت رصاصة من مسدس المحقق (باسكال كومبان) رأس الشاب الزائيري (ماكومي مبولي)، أثناء التحقيق معه بتهمة سرقة خراطيش سجائر دانهل من إحدى الشاحنات.
ألهمت هذه القضية وأعمال الشغب التي تلتها واستمرت لثلاث أيام المخرج (ماتيو كاسوفيتز)، بالإضافة إلى قضية أخرى مماثلة في عام 1986، عندما تعرض الشاب الجزائري (مالك اوسكين) للعنف بواسطة قوات الشرطة الفرنسية، لبداية كتابة وإخراج فيلمه الأشهر خلال مسيرته الفنية la haine.
كان للقضيتان تأثيرهم الخاص على (ماتيو كاسوفيتز) وكان تساءله بتعجب شديد في أحد الصحف اليومية ” كيف لشخصٍ ما أن يستيقظ في الصباح ويموت في نفس المساء بهذه الطريقة البشعة؟!”، بمثابة شارة البداية في أكثر عمل سينمائي متمرد في القرن العشرين.
أعمال شغب
تم الإشارة لأعمال الشغب في فرنسا منذ عام 1986 حتى 1995 في افتتاحية الفيلم وعلى خلفية أغنية burning and looting لبوب مارلي، الذي عبرت أغانيه عن التمرد على الظلم، والمطالبة بالعدالة والحب والسلام، فأصبح أيقونة التمرد بالفن عبر الأجيال المتعاقبة.
اكتسب (كاسوفيتز) سمعة كونه معادياً للسلطة بشكل عام ولقوات الشرطة بشكل خاص، ولم يحاول أن يسقط هذه السمعة عنه، كما ذكرت صحيفة ليبراسيون الفرنسية اليومية، وعززت الصحيفة هذه السمعة على كاسوفيتز، من خلال الاستعانة بمشهد تحرش رجال الشرطة السادي للصديقين (أوبير) و(سعيد)، بينما كان ضابط متدرب يشاهد.
الفيلم يحكي عن ثلاثة شباب فوق سن المراهقة يعانون من انعدام فرصة استقلالهم مادياً، والجهل، وانعدام الرؤية لمستقبلهم، يتجولوا في ضاحيتهم ووسط باريس بدون هدف، انهم عبارة عن متسكعين، يدفعهم تعرض صديق لهم للعنف من قوات الشرطة للدخول في أزمة تنتهي بحادث مروع، نعيشها معهم كمتفرجين في الإطار الزمني للفيلم الذي يبدأ الساعة 10:38 صباحاً حتى الساعة 06:01 من صباح اليوم التالي، ليعبر عن الكراهية.. وسينما التمرد.
فك شفرة “الفنان” على السوشيال ميديا
أقليات مضطهدة
إن اختيار الأبطال الثلاثة، اليهودي فينز (فينسينت كاسل)، والأفريقي ذو البشرة السوداء أوبير (أوبير كونديه) والشاب المغربي سعيد (سعيد تغماوي)، يمثل اختيارهم ثلاثة أقليات مضطهده تاريخياً بأشكال مختلفة من الاضطهاد.
بشكل أكثر تفصيلاً (فينز) مليء بالغضب والتمرد الظاهري، لكننا في الكثير من المشاهد والمواجهات، التي من المفترض إن تظهر لنا هذه الروح الغاضبة المتمردة، نجده يتراجع كطفل، يعتقد نفسه مكتمل النضج ليصبح أحد رجال العصابات، ويعتقد أيضا انه سوف ينال احترام وتقدير الجميع من المحيطين به، إذا قتل شرطي انتقاماً لصديقه الذي تعرض للعنف.
الكراهية.. وسينما التمرد
روح التمرد بداخل (فينز) تم تعزيزها بالمشاهد الدلالية لفيلم taxi driver 1976 للمخرج (مارتن سكورسيزي) بطولة (روبرت دي نيرو)، المشهد الأول، ترافيس بيكل (دي نيرو) يتحدث مع نفسه أمام المرآة كذلك (فينز) في أحد المشاهد، المشهد الثاني لترافيس بيكل بداخل قاعة السينما.
أما عن (أوبير) فهو أفريقي ذو بشرة داكنة مهاجر لفرنسا، يجيد الملاكمة، ويعمل كوسيط في تجارة الحشيش، احترقت صالته للألعاب الرياضية، التي بناها بشق الأنفس أثناء أحداث الشغب، بالغرم من حبه للملاكمة لكنه الأقل عنفاً حتى في أفكاره والأكثر حكمة ونضج من رفيقيه، كما أنه يميل للعائلة، وينظر للمجتمع من حوله بنظرة حزن، وفي أحد المشاهد يعبر عن رغبته الصريحة في ترك هذا المجتمع إلى أي مكان أخر.
والثالث (سعيد)، على سجيته، ويمثل حلقة الوصل بين (فينز) و(أوبير) دائمي الخلاف.
الوجه القبيح
لقد تعودنا كمتفرجين حينما تأتي سيرة فرنسا فنحن على موعد مع الحب، والموسيقي، والذوق الرفيع في شتي نواحي الحياة، الملاهي الليلية، والمقاهي، والتاريخ لكن كاسوفيتز ابعد هذا التصور من مخيلتنا، فأظهر لنا الوجه القبيح لفرنسا بالأبيض والأسود والمباني الخرسانية الصماء وضواحيها الفقيرة.
ذكر العديد من النقاد أن التأمل في القصص، التي تبدو في ظاهرها كالنكات والحوارات الساخرة بين الثلاث أصدقاء هو مفتاح الحل للفيلم، من ضمن هذه القصص التي تم ذكرها في الفيلم وهي الأشهر، قصة “جرونو ألسكي” الذي حكاها لهم رجل عجوز، أثناء تواجدهم في أحد المراحيض العامة.
وهي باختصار قصة رجل نزل من القطار ليقضي حاجاته على جانب الطريق أثناء ترحيله لمستعمرات سيبيريا، تحرك القطار لكنه لم يلحق به لأنه انشغل برفع بنطاله وهو يركض للحاق بالقطار فتجمد ومات، قصة “جرونوالسكي” هي قصة جميع المهاجرين في البلاد الصناعية المتقدمة مثل فرنسا، أولئك الذين بسبب معتقداتهم الأصلية ينشغلون بالكراهية فيما بينهم وبين المجتمعات المتواجدين بها ولا يواكبون التقدم.
في بداية الفيلم نري مولوتوف يسقط على الأرض، وفي الخلفية صوت (أوبير) يحكي قصة عن رجل سقط من ناطحة سحاب، وفي طريقه للأسفل عندما كان يجتاز كل طابق ظل يردد مطمئناً نفسه “الأمر على ما يرام حتى الآن”، ويضيف (أوبير) ليس المهم كيف تسقط، بل المهم كيف تهبط.
من خلال هذه القصة ووضعها في البداية أعلن “ماتيو كاسوفيتز” عن نيته في إجراء تحليل حول الانهيار الذي لا رجعة فيه للمجتمع الفرنسي بل وللعالم كله الذي دمرته الكراهية، ويكرر هذه القصة أيضا في نهاية الفيلم للتأكيد على غرض الفيلم، عندما يوجه (أوبير) وشرطي أسلحتهم لبعضهم البعض ونسمع فقط إطلاق نار، ليس المهم إن نعرف من أطلق الرصاص على من، فإن عاقبة الكراهية واحدة.. وهي انهيار كلي للمجتمع.