نقد

مأساة الجسد.. قراءة نقدية “شهادة”

خالد سليمان

بعيدا عن الأحكام الأخلاقوية أو الخاضعة لقيود المعتقدات.. يمكن القول إن الجسد كان محل حفاوة من الحضارات العظمى عبر التاريخ.. فرعونية أو هندية أو صينية مرورا بحضارات الرافدين والفينيقية والإغريقية والرومانية إلخ..، وكان ينظر للجسد وتفاصيله بإجلال وتقدير وقداسة أيضا إذ يكمن في تلك التفاصيل أسرار الخلق والنفخة الأولى وليس أدل على ذلك من أسطورة إيزيس وأوزيريس التي بحثت عن العضو الناقص من جسد زوجها المغدور حتى عثرت عليه مدفونا تحت شجرة أرز في لبنان "لاحظ خصوصية الرمز".. فحملته لتزرعه في أحراش الدلتا وفي الحلم يأتي أوزيريس ليزرع بذرة حورس الأبن ليثأر لأبيه.

لكن الجسد في عصور الانحطاط يصبح نجسا وعارا يتبرأ منه العجزة فعلا وقولا.

أثار تلك الشجون عرض تم تقديمه أمس ضمن فعاليات أيام قرطاج المسرحية في تونس والذي آلمني الغياب عنه لأول مرة منذ عقدين بسبب عطلة اضطرارية.

العرض المسرحي السوري الألماني حسب ما تناقلته وسائل الإعلام.. ظهر فيه أحد الممثلين عاريا تماما، وبداية أقول إنه لا تستطيع الحكم على العري في مختبر درامي إلا من خلال سياقه. ولا تجوز معه الأحكام الأخلاقوية كما لا يجوز طرحه إلا على أهل التخصص..، ومن باب القياس قديما في حيثيات حكمه في قضية تخص إحدى القصائد قال القاضي " الجرجاني " (أن الدين بمعزل عن الشعر) إذ أن روح الشريعة والقوانين تتطلب احترام حرية الإبداع والتسامح معها وفصلها عن العقائد.

وتلك الضجة المثارة حول العرض الذي ذكرناه آنفا ليست الأولي في العالم العربي.. ففي تسعينيات القرن الماضي حدث ضمن فعاليات مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي أن عرض على خشبة المسرح الصغير بالأوبرا المصرية عرض فنزويلي ظهرت فيه الممثلات عاريات تماما بعد خلعهن زي الراهبات الذي كان يشبه زي إحدى الشخصيات التاريخية الدينية بالغة القداسة..، بطبيعة الحال كان المشهد صادما وأثار ردود فعل متفاوتة بين مؤيد ومعارض.. ولم يكن قد مضى وقت طويل على مشهد صادم أيضا لعرض مصري قدمه المخرج الموهوب المرحوم " منصور محمد " الذي توفي قهرا بعد أن تنصل من فعلته من شجعوه على إخراج المشهد الإشكالي، وكان مشكل العرضين واحد.. وهو المساس بتابوهي الجنس والدين.. ولعمري أن السياسة أخطر منهما فبطش الساسة لا يرحم أما الرأي العام فينسى ربما بعد الاكتفاء باغتيال المبدع معنويا أو جسديا كما حدث لنجيب محفوظ في مصر وعبد القادر علولة في الجزائر على سبيل المثال لا الحصر..، يتساوى في تلك النوعية من ردود الأفعال الشرق والغرب مع اختلافات نسبية ربما كان مرجعها للقوانين أولا والعقد الاجتماعي الثقافي ثانيا.

– وجميعنا يذكر موقف الكنيسة الكاثوليكية القريب من الروائي العظيم " نيكوس كزانتزاكيس" الذي حرم من جائزة نوبل كنتيجة مباشرة لتعنت الكنيسة ، ثم موقفها من الفيلم المأخوذ عن روايته " الإغواء الأخير للمسيح " بعد ذلك بعقود. هذا على سبيل المثال لا الحصر 
ومازال الكافة يذكرون الموقف اليهودي المتطرف من فيلم " آلام المسيح " ل " ميل جيبسون " والعقاب المعنوي الذي تعرض له.

والتعرض لتابو الجنس يحيلنا بالضرورة إلى المساس بتابو الدين.. لذا فإن التعامل بحذر بالغ مع تلك التابوهات مطلوب خاصة في المجتمعات التي تعاني مشكلات وكبت من نوع أخر إذ أن تلك المجتمعات تنفس عن غضبها المكبوت على كافة الصعد من خلال الأعمال التي تكسر تابوهي الجنس والدين بمحاكمتها أخلاقويا دون خشية انتقام السلطات التي تجد أيضا ضالتها في تنفيس الغضب الشعبي دون أن يكلفها ذلك شيئا وغالبا ما تنحاز إلى الغضب الشعبي بتقديم كبش أو كباش فداء قربانا على مذبح المعتقدات الشعبية السائد وللسلطة في ذلك مآرب أخرى تغنيها عن سؤال الشعوب " اللئيمة " عن حقوقها.

-كان العرض الفنزويلي الذي ذكرناه سلفا محلا لجدل واسع بين كاتب السطور والأخوين الصديقين المرحومين د/ محسن مصيلحي. أستاذ الدراما بأكاديمية الفنون بمصر، ود/ حازم شحاته.. أستاذ الدراما بجامعة حلوان شهيدي حريق مسرح بني سويف.. ونشرت نتائج هذا الحوار الثري في مجلة أدب ونقد الغراء، كما كان موضوع التابلوهات " المحرمات " محل نقاش ثري أدارته الأستاذة / فريدة النقاش.. في ندوة مجلة " أدب ونقد " التي شرفت بتنظيمها إلى جوار الأخ والصديق / أشرف أبواليزيد.. سكرتير تحرير المجلة، كانت الخلاصة آراء متقاربة حول مسألة كسر التابوهات " المحرمات " ولكن مع مراعاة أن يكون في ذلك الكسر حرفية وتهيئة لتخفيف وقع الصدام الحتمي مع المجتمع.

-وقد روي لي صديق عن الجدل الذي أثاره عرض أوكراني في إحدى دورات مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي في فترة غياب كاتب السطور عن مصر لعقد من الزمان. إذن الموقف متكرر في كافة المجتمعات والآراء المعارضة والمؤيدة نسبية وظرفية أيضا، وما حدث في تونس من جدل حول العرض السوري الألماني ليس استثناء مما تعرضنا له سلفا.. لكن لابد من ذكر عدة ملاحظات:

 
أولها: أنه لا يجوز إطلاق الأحكام الأخلاقوية على الأعمال الإبداعية بشكل عام.

ثانيا: المسرح في المقام الأول هو مختبر درامي له قواعد وسياق يتم من خلاله الحكم على مستوى العمل طبقا للمعايير الخاصة بالدراما.

ثالثا: الأعمال الدرامية ذات الطبيعة الخاصة لها أصول وقواعد تتبع في عرضها ولا يتحمل القائمون عليها أدنى مسئولية.. ويتحمل المسئولية في ذلك لجنة مشاهدة العروض والهيئة المنظمة.. حيث يفضل أن تعرض تلك الأعمال على أهل الاختصاص والفنون حيث تتطلب تلك الأعمال درجة معينة من التلقي.

رابعا: أحرى ببعض المسئولين توخي قدر أكبر من التروي في إطلاق التصريحات التي ربما تستفز الرأي العام فتأتي بنتائج عكسية تعرقل الحركة المسرحية بدلا من أن تدفعها للأمام.. مع وعي أكبر بالخصوصية الظرفية .

خامسا: بعيدا عن أية تنظيرات مدعمة بمصطلحات مقعرة حول استخدام لغة الجسد كبديل عن الحوار والتشكيل في الفراغ المسرحي وكسر الإيهام ، أو توظيف أسماء لامعة في عالم الدراما المسرحية مثل برشت وستانسلافسكي .. ، لابد من التأكيد على أن من صنعوا النهضة المسرحية التونسية ومن ثم العربية الذين انطلقوا من المسرح المدرسي ثم جماعة المسرح الحر من أبناء علي بن عياد مثل محمد إدريس وتوفيق الجبالي ورجاء بن عمار والمنصف الصايم والفاضل الجزيري والجعايبي وعز الدين قنون وصولا إلى رضا قريرة وحسن المؤذن " ما عدا السهو أو الخطأ " .. قد قدموا مسرحا جديدا وحداثيا عرف فيه المسرح العربي توظيفا مبهرا للغة الجسد أحدثت ضجة كبرى آنذاك، وكانت القاهرة تنتظر أعمال الصديقين الحبيبين رجاء بن عمار وعزالدين قنون.. بفارغ الصبر لتتعرف على ما وصلت إليه مختبراتهم المسرحية في لغة الجسد حيث كان لكل منهما مدرسته وخصوصيته.. كان الجديد مبهرا وصادما أحيانا لكنه كان يلقى مردودا متميزا في التلقي حيث كانت الحرفية والذكاء الدرامي تميزان كافة أعمالهما وينسحب ذلك على من ذكرناهم أيضا.. ومن ثم فقد كانت ردة الفعل على العرض السوري الألماني مزعجة إلى حد ما فقط لأنها آتت من تونس التي كانت أول معتنقي الحداثة المسرحية في العالم العربي.

– في العرض الفنزويلي الذي شهدته القاهرة منذ حوالي عقدين انتهى الجدل بارتداء الممثلات الراقصات " سترتش " بلون الجسد في العرض الثاني أظهر أكثر مما أخفى. لكنه كان كافيا لإنهاء الجدل العقيم.. فهل ينتهي الجدل الدائر في أيام قرطاج المسرحية بحل مشابه أم أن ذهنية التحريم العربية تشهد ردة تهدد حداثتها من خلال مشروع آخر؟ ذلك ما ستفصح عنه أياما قادمة نرجو أن تكون أفضل.
 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى