سينما خيري بشارة.. رؤية نقدية (2-2)
إذا كانت أفلام المخرج " خيري بشارة " في فترة التسعينات قد حظت ببعض الفتور النقدي واشار البعض إلى تراجع مستوى أعماله الفنية، فإن الناقد السينمائي الدكتور " ناجى فوزي" يشير إلى أن المخرج "خيري بشارة" يمثل حالة خاصة بذاتها، فهو يستمر في محاولاته الدؤوب للمحافظة على نوع من الاتزان الموضوعي من خلال التلامس مع القضايا ذات الطابع الاجتماعي غالبًا (كابوريا 90، أيس كريم في جليم 93، أمريكا شيكا بيكا 94، حرب الفراولة 95، إشارة مرور 96)، وفي الوقت نفسه يعمل على المحافظة على فكرة التوازن الإنتاجي؛ بتحقيق قدر مناسب من إيرادات أفلامه، من خلال تضمينها عناصر ذات طابع جماهيري، مع محاولة المحافظة على المستوى الحرفي ذاته.
وإذا كنا نرى أن "خيري بشارة" قد أساء بقوة إلى الفيلم الأمريكي المشهور "إنهم يقتلون الجياد.. أليس كذلك" (إخراج: سيدني بولاك، 1969) من خلال استغلال قيمته الفكرية في تكوين فيلم "قشر البندق" 1995، إلا أننا ينبغي أن نشير إلى إقدام " بشارة " على محاولة التحقيق السينمائي لوحدات المكان والزمان والحدث الأرسطي، المشهورة في نظرية الدراما الإغريقية، وذلك من خلال فيلم "إشارة مرور"1996. ويتفق الناقد السينمائي "عصام زكريا" مع الرأي السابق وذلك في مقاله عن فيلم " أيس كريم في جليم" إذ يذكر أن هذا العمل "هو أحد الأفلام المظلومة بين أعمال المخرج خيري بشارة والسينما المصرية عموما، فهو يعبر عن روح بشارة وعن أفضل مميزاته أكثر من أي عمل آخر.
هذه الروح الساخرة والميل إلى اللعب والتجريب طالما حدت منهما الظروف الإنتاجية والثقافية السائدة، فقد توفرت لفيلم «آيس كريم في جليم» مجموعة من المواهب التي قلما اجتمعت في فيلم مصري: مخرج مبدع في أعلى مراحل نضجه الفني، وقصة من تأليف أديب هو محمد المنسي قنديل، وكاتب سيناريو وأغانٍ صاحب أعمال، هو مدحت العدل، وأكبر نجم غنائي شاب، عمرو دياب، ومغنية وممثلة موهوبة، سيمون، وكوميديان محبوب، أشرف عبدالباقي، ووجه جديد ناضر، جيهان فاضل، وممثل مخضرم صاحب حضور، على حسنين. يضم الفيلم أيضا مجموعة من أفضل أغاني عمرو دياب وموسيقى الرائع، كملحن وممثل، حسين الإمام ".
وتهتم أفلام خيري بشارة بتقديم الشخصيات المهمشة والمسحوقة مثل عامل المحلج في فيلم (العوامة رقم 70)، والموسيقى السكير زرياب في فيلم (أيس كريم في جليم) والأم البسيطة في فيلم (يوم مر يوم حلو)، والمجند المسحوق في فيلم (قشر البندق) والمدرس الكهل في فيلم (إشارة مرور).
ومن جهة أخرى يشير الناقد السينمائي "أحمد شوقي" إلى توظيف التابوهات الثلاثة (الجنس والسياسة والدين) في تكوين شخصية البطل في فيلم (العوامة رقم 70)، مشيراً إلى أن شخصية " أحمد "هو " النموذج العكسي لكل تصورات المشاهد عن الشخص الصالح لأن يكون بطلا لفيلم سينمائي، فهو بطل بلا انتماء حقيقي ولا أي سمة من سمات البطولة. بل أن قسوة بشارة وغالي على بطلهما تبلغ ذروتها في مشهد التحقيق معه بعد مقتل عبد العاطي، وهو المشهد الذي يصدمنا فيه بتكذيب تفسير الضابط للقضية مفضلا فهم الحالة باعتبارها مجرد "قضاء وقدر"، في تصرف يجسد كل التناقضات والجبن والتشوهات التي عانى منها البطل وجيله. وحتى محاولة أحمد الوحيدة لتقمص شخصية عمه السكير المغامر (كمال الشناوي)، والذهاب لانتزاع الحقيقة بيديه كما فعلها عمه قديما مع جندي انجليزي، تنتهي هي الأخرى بالفشل الذريع إمعانا في تصوير العجز وقلة الحيلة حتى عندما تتوافر الرغبة في التحدي".
وتعتمد بعض أفلام خيري بشارة على الحبكات غير التقليدية، وهو ما يظهر تحديداً في فيلم " الطوق والإسورة " إذ يشير الناقد " حسن حداد " إلى أن هذا العمل " لا يعتمد على الحبكة الخط الدرامي الواحد، وإنما يعتمد أسلوب التفاصيل والمواقف والحالات العديدة، وبذلك لا يهتم بعرض تطور الشخصيات وتصوير مراحلها التاريخية، حيث أن القصد من الامتداد الزمني ليس رواية تاريخ بقدر ما هو تجسيد لامتداد سيكولوجية الشخصيات ووعيها ومواقفها.
وبالتالي نجد بأن الشخصيات والحالات تتكرر أو بمعنى أصح تتناسخ في شخصيات وحالات أخرى. ففرحانة هي امتداد لأمها فهيمة وليس هناك مال للمصادفة أن تمثل الدورين ممثلة واحدة (شيريهان)، وأن تموت الشخصيتان بعد ظهور علامات الخصوبة عليهما. كذلك مصطفي الذي نجده امتداداً لأبيه العاجز والمقعد (يمثل الدورين عزت العلايلي أيضاً) فمصطفي في النهاية يصل إلى نفس الحالة التي وصل إليها أبوه. وهناك أيضاً ابن الحداد الذي يشكل امتداداً لخاله، فكلاهما انتهى بفعل عنيف، الخال حرق زوجته ونفسه وابن الأخت قتل فرحانة، هذا التكرار أو التناسخ في الشخصيات إنما يعبر عن حالة الثبات في المجتمع وتوارث القيم والمفاهيم المتخلفة. ثم أن الفيلم بما يقدمه من أفكار وشخصيات لا يقدم ولا يطرح حلولاً بل يقدم وجهة نظره القاسية معتمداً على ذكاء المتفرج في اكتشاف الخلل والسعي لتغيير تلك البنية المركبة التي أفرزت وضعاً ونظاماً كهذا ".
وعلى جانب أخر، قدم خيري بشارة عدد من المسلسلات التلفزيونية نذكر منها (مسألة مبدأ)، (ملح الأرض)، (الفريسة والصياد)، (قلب حبيبة)، (ريش نعام)، (الطوفان).
فضلا عن مشاركاته كممثل في عدد من الأعمال مثل زوجة رجل مهم (إخراج / محمد خان)، سمع هس (إخراج / شريف عرفة)، امرأة آيلة للسقوط (إخراج / مدحت السباعي)، أحلى الأوقات (إخراج / هالة خليل)، ملك وكتابة (إخراج / كاملة أبو ذكرى)، فيلا 69 (إخراج / أيتن أمين).
المراجع
1ـ أحمد شوقي: محظورات على الشاشة / التابو في سينما الثمانينات (القاهرة ـ الهيئة العامة لقصور الثقافة – سلسة أفاق السينما ـ 2015).
2ـ ياقوت الديب: اتجاهات الإنتاج السينمائي المصري (من ثورة يوليو حتي ثورة يناير) (القاهرة ـ الهيئة العامة لقصور الثقافة – سلسة أفاق السينما ـ 2014).
3ـ رؤوف توفيق: الواقعية الجديدة وعقد الثمانينات، حلقة بحث السينما المصرية / الانفتاح والواقعية الجديدة 1970 :2000 ، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، يونية 2011.
4ـ سلمى مبارك: رواية جديدة – سينما جديدة، حلقة بحث السينما المصرية / الانفتاح والواقعية الجديدة 1970 :2000 ، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، يونية 2011
5ـ ناجـي فــوزي: سـيـنـمـا الـتـسـعـيـنيـات فـي مـصـر / اتــجـاهـات ومــلامـــح، حلقة بحث السينما المصرية / الانفتاح والواقعية الجديدة 1970 :2000 ، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، يونية 2011.
6ـ عصام زكريا: مقال عن فيلم أيس كريم في جليم، نشر في موقع البوابة نيوز
7ـ حسن حداد: مقال منشور عن المخرج خيري بشارة، موقع سينماتك