“الاستهلال” في أعمال المخرج توفيق صالح
د.نادر رفاعي
تعد المشاهد الافتتاحية من الأعمدة الأساسية التي يتأسس عليها الفيلم الروائي، ويذكر " ياسين النصير " أن " الاستهلال"، في مجال الدراسات الأدبية، هو أحد عناصر العمل الفني، وله خصوصيته التعبيرية باعتباره بدء الكلام، والبداية هي المحرك الفاعل لعجلة النص كله (1).
ونلاحظ أن هذا المصطلح يعادل في مجال السينما عبارة (الصورة الافتتاحية)، ولا تقتصر الصورة الافتتاحية على أول لقطة من الفيلم، بل قد تمتد حتى نهاية الصفحة الرابعة من السيناريو، وهذا الامتداد يجعلها يحقق عدة وظائف عملية ودرامية.
ومن الوظائف الدرامية للصورة الافتتاحية (2):
1. تقديم صيغة الفيلم The Mode of the Film: من خلال الصورة الافتتاحية سوف يتمكن المتلقي من معرفة الصيغة العامة للفيلم، هل هي صيغة واقعية Realism Mode أم تعبيرية Expressionism أم انعكاسية Cinematic Self-Reflexivity أم عجائبية Fantastic؟
2. تقديم نوع الفيلم The Type of the Film: من خلال الصورة الافتتاحية سوف يتضح النوع الفيلمي للسيناريو (خيال علمي ـ كوميدي ـ اجتماعي.. إلخ).
3. تقديم أسلوب الفيلم The Style of the Film: من خلال الصورة الافتتاحية سوف نتعرف على أسلوب تقديم الأحداث، وقد يكون هذا الأسلوب ساخرًا أو جادًا أو عقلانيًا أو انفعاليًا أو معقدًا أو بسيطًا أو يمزج بين عدة أساليب.
4. تقديم الشخصية الرئيسية وحياتها السابقة
Introduce the Main Character
5. ربط النهاية بالبداية: ولابد أن تكون الصورة الافتتاحية عكس الصورة الأخيرة تماماً، سواء بالسلب أو بالإيجاب، وأن يعرضا معاً التغير الدرامي العنيف الذي طرأ على الشخصيات وعالمها، ويوثقان الزخم الانفعالي الذي يقدمه الفيلم.
وسوف نركز ضمن هذا المقال على منطقة البداية في أعمال المخرج السينمائي "توفيق صالح" والتي تمتد بحسب المنظر السينمائي "سيد فيلد" لتشمل الفصل الأول من السيناريو (act 1).
ويؤكد المخرج "توفيق صالح" من خلال المشاهد الافتتاحية على القضايا الأساسية التي تناقشها أفلامه، فقضية الفقر تظهر بوضوح في فيلمه "صراع الأبطال" من خلال شخصية "الفلاح الثائر" (بدر نوفل) والذي يعاني من مرض "الانيميا الحادة".
ويؤكد الحوار الذي يجمع بين البطل والطبيب "شكري" (شكري سرحان)، على انتشار الفقر والجهل والمرض داخل القرية، ويقارن الفيلم بين أحوال الفلاحين البائسة وبين الحياة الرغدة للطبقة الأثرياء من خلال نموذجي "عادل بك" (صلاح نظمي) ووالدته المسيطرة عليه.
ويتكرر ذلك في فيلم "السيد البلطي" الذي يتجه من خلال المشهد الافتتاحي إلى التأكيد على طبيعة الصراع بين الجيل القديم والذي يمثله العم وجيل الشباب الذي يمثله في الفيلم شخصيتي "محمود" (محمد نوح) و"حنفي" (عزت العلايلي)، إذ نطالع "محمود" وهو يخرج من المنزل غاضباً وسط لعنات أبيه، ونلاحظ أن العمل يقدم في مشاهده الأولى صراعات فكرية داخل جيل الشباب ذاته ، من خلال التأكيد على وجهات الآراء المتعارضة بين كل من "حنفي" و "محمود" تجاه أزمة الصيادين.
ونلاحظ تأكيد المخرج على فكرة المرض داخل عدة أفلام مثل شخصية المريض العجوز في فيلم "السيد البلطي" والمرضى الذي ينتمون إلى خلفيات فكرية مختلفة في فيلمه "المتمردون".
ومن التفاصيل الملحوظة في المشاهد الافتتاحية داخل أعمال المخرج توفيق صالح تأكيده على طبيعة المكان من خلال لقطات "أسماء طاقم العمل/التترات"، فنطالع لقطات الحقول والأشجار المرتبطة بالموقع الريفي الذي تدور بداخله أحداث فيلم "صراع الأبطال".
ونلاحظ أن المخرج توفيق صالح يتعمد أن يقدم السيارة التي يستقلها الطبيب وضابط الشرطة ككتلة صغيرة جداً تتحرك خلف النخيل في تأكيد مرئي على طبيعة الصراع داخل العمل بين البطل والأوضاع الاجتماعية الفاسدة، ويتضمن العمل عدة مواقف درامية تؤكد على قمع السلطة للمواطنين مثل اتهام الفلاح الثائر بالجنون والاعتداء على الفلاحين بالضرب أمام قصر الشاب الثرى "عادل"، وفي فيلم "السيد البلطي" نطالع أثناء العناوين لقطات لأمواج البحر المتلاطمة، والبحر داخل العمل هو مصدر الرزق الأساسي للصيادين البسطاء.
بينما نلاحظ اهتمام المخرج في فيلمه "يوميات نائب في الأرياف" بتقديم أسماء الممثلين استنادا إلى مواقعهم الوظيفية والاجتماعية داخل سيناريو الفيلم، فهو يبدأ بعناصر السلطة الأساسية (الإدارة) وهم المساعد (توفيق الدقن)ـ العمدة (أحمد الجزيري).. إلخ)، ثم ينتقل إلى عنصر أخر وهو رجال القضاء وهم القاضي (شفيق نور الدين) ـ باشكاتب النيابة (سعيد خليل).. إلخ، ثم ينتقل إلى جموع المواطنين (الشعب)، ونلاحظ ارتباط هذا التقديم السينمائي بأحد القضايا الأساسية التي يطرحها العمل وهي "علاقة الفرد بالسلطة".
وتتضمن المشاهد الافتتاحية داخل أفلام المخرج توفيق صالح مجموعة من التقنيات السردية، مثل الاسترجاع الخارجي في فيلم "صراع الأبطال"، حين يتذكر الشاب الثرى "عادل" مشاعر الحب التي تجمعه مع الفتاة "عفاف"، "والاسترجاع الداخلي" عندما يتذكر "حنفي" حديثه مع "محمود" أثناء تواجده بجوار المركب، بالإضافة إلى توظيف "المناجاة الفردية الداخلية" داخل نفس الفيلم والتي تظهر في المشاهد الأولى من خلال العبارات التي يخاطب خلالها البطل والده الراحل (السيد البلطي)، بينما يتم توظيف أسلوب الراوي في المشهد الافتتاحي الخاص بفيلم "يوميات نائب في الأرياف"، ويرتبط هذا الأسلوب برصد البطل المستمر لأفكاره وأراءه من خلال اليوميات.
وتتصل بمسألة البدايات في الأفلام الروائية مسألة تتفق معها في الهدف ، وهى "الزرع" (أي الإشارة إلى أحداث لاحقة تتصل بموضوع الفيلم) ، المعروف باسم "الاغتراس" أيضًا، وهى بحسب ـ حسين حلى المهندس ـ "معلومة خاصة يغرسها الكاتب بذكاء في مرحلة مبكرة من العمل دون تركيز لا تبرره الأحداث الجارية عندئذ، ولكننا نتذكرها في الوقت المناسب عند توظيفها في موقف هام"(3)، ومن التفاصيل التي تم زراعتها في الفصل الأول من فيلم "صراع الأبطال" معلومة امتلاك "عفاف" لمنزل البطل ومعرفتها معلومة احتفاظه بالأقراص المنومة، وهو ما يفسر نجاحها في التسلل لمنزله عند محاولتها الانتحار.
وإذا كان "جوزيف. م. بوجز" يشير إلى أن "الطريقة التي ينظر بها الآخرون إلى شخص ما كثيراً ما تفيد كوسيلة ممتازة لرسم الشخصية" (4). فإن فيلم "صراع الأبطال" يستغل شخصية "الفلاح" للتأكيد على دور "الطبيب" التنويري داخل القرية عندما يخاطب زوجته قائلاً "أنا متباشر خير بالدكتور الجديد اللي سكن حدانا (أي داخل القرية)".
الإشارات المرجعية:
1- ياسين النصير: الاستهلال / فن بدايات في النص الأدبي (القاهرة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، سلسلة كتابات نقدية، 1998) ص 21 بتصرف.
2- هيمن سند التهامي، د.: محاضرات في فن كتابة السيناريو السينمائي (القاهرة، أكاديمية الفنون، المعهد العالي للسينما، 2016).
3- حسين حلمي المهندس: دراما الشاشة بين النظرية والتطبيق للسينما والتلفزيون ج1 (القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1989) ص 96.
4- جوزيف. م. بوجز: فن الفرجة على الأفلام، ترجمة: وداد عبد الله (القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، سلسلة الألف كتاب الثاني، 1995) ص56.