“أناغيم”.. أنات مدينة تستدعي عراقتها
نوار عكاشه
ترى مدينة وتستشعر إنساناً، هنا شارع ينبض، وهناك معلم أثري يُصلي، وذاك مقهىً يتنفس، وتلك مكتبة تروي أسرار النفس والكون.
ترى وتستشعر في فيلم وثائقي قصير! سمّاه صُناعه «أناغيم» وقدموه على أنه "وثائقي عن مدينة من مدائن" فَكان بِتفوق؛ أنات مدينة تستدعي عراقتها.
يتعامل الفيلم (2018، 14د) مع المدينة كما الإنسان، يتنقل في شوارعها ومعالمها كَمن يستكشف ذاتاً بشرية، يتعمق ليحدد ملامح وسمات تحدد هوية شخصية، تضجّ بالصمت، تزدحم بِالهدوء، تحيا بالضحكات، وتحتفل بالجنون!
لِحجارتها طعم ولون ورائحة تميزها، تختزن في تكوينها ألاف الحكايا المُعتَّقة منذ ألاف السنين، حكايا سُكانها الأوائل وأحفاد اليوم.
لطالما كانت الأفلام الوثائقية شديدة الحساسية، الانجذاب لها إنجاز يُحتفى به، والنفور منها سهل وسريع، تتنوع في مواضيعها وأساليب طرحها، وتتباين في صدقها وصنعتها، ومن أصعب ما تحقق من نجاحاتها؛ تلك الأفلام التي تناولت المدن، حفرت في قاعها وعانقت شخوصها ثمّ طافت بِسمائها.
في «أناغيم» للمخرج «زياد حمدان»، عن فكرة وسيناريو «فادي جعارة» (منتج الفيلم)، ترافق كاميرا المخرج مدينة «اللاذقية» في رحلة شاعرية مثيرة مع الممثلين «يقين زنيبة» و«غربة مريشة»، ترافقها صمتاً على أنغام موسيقا دافئة تأتي من بعيد للموسيقار «زياد عجان»، بِمكساج يُوَاتِر حال المدينة وارتجاج عاطفتها، تستحضر بِصورها تاريخها من حاضرها، وكأنها تُرافق إنساناً يروي هواجسه بِصمت.
الصورة تتكلم، والعين تستمع، وما وراء المرئي يكمن بيت القصيد، هي مغازلة سينمائية للخزينة المعرفية والذاكرة البصرية للمُشاهد، لاسيما المُشاهد ابن هذه المدينة، فهو الأقدر على إدراك ما يُرام.
ينطلق بطلا الفيلم في مسيرة بحث وتوثيق بالتصوير الفوتوغرافي للمدينة، الانطلاق من المسرح، فَهو ابنها الشرعي، أنجبته منذ ألاف السنين، وضعته في مملكة «أوغاريت» وتغنت بِه في طقوسٍ احتفالية شخّصت الآلهة وجسدت أساطيرها على منصاته.
يمسح الممثل الغبار عن عدسة الكاميرا، الغبار العالق في الشوارع أشد قدماً وثقلاً والرؤية ضبابية للحاضر، يُصوّر شوارع المدينة وجبال الريف بِلقطات واسعة من الأعلى، السكون سيد الموقف.
ينتقل إلى «قوس النصر» والمعروف بمعبد الإله «باخوس» إله الخمر، فَعلى هذه الأرض زرع الأجداد الكرمة وعصروا العنب ليصنعوا الخمر، شربوا ورقصوا واحتفلوا، تاريخهم تاريخ فرح وسلام، لا يشبه تاريخ اليوم الأسود، تدور كاميرا المخرج عند سقف القوس، تدور في الزمن.
ينتقل إلى «جبلة»، مدينة تعاقبت الفنون على مسرحها الروماني الكبير غناءً ورقصاً ومسرحاً … يستحضر المخرج فرقة «غابالا» إلى ذلك المسرح، يقرع أعضاء الفرقة بِرقصاتهم حجارته لإيقاظه من غفوة السنين، ولكن لا جمهور!
كان على المخرج المرور بِمشهد لمأكول خاص بالمدينة (الكنافة) التي تشتهر بها المدينة كأحد عناصر تراثها الشعبي، لينتقل بعدها إلى البحر، هنا السحر الأعظم والسر الكبير الذي يُطوّق شاطئ اللاذقية ويرسم حدودها مع الأفق.
عليك المرور بأحد أشهر أسواق المدينة وأعرقها «السوق المقبي» كي تصل إلى أكبر مكتبات المدينة، سكان هذي المدينة متأصلين بالمعرفة، الأبجدية الأولى كانت من هنا، وبعدها خط العالم حروف لغاته، أعلامها في الأدب والحكمة غزوا العالم ولازالوا حتى اليوم، هاك في عصرنا «أدونيس»، «حنا مينة»، و«محمد جعارة» وغيرهم، تتربع إبداعاتهم مكتبات مدينتهم، تلك الأعمال الأدبية التي غزت المنطقة والعالم.
في المقاهي يجتمع الرفاق، بِالمحبة والود يتشاركون المكان، واضحة ومميزة تلك الطيبة على الوجوه، الابتسامة حاضرة دوماً.
على حائط المقهى؛ صور فوتوغرافية نادرة توضح بعض معالم المدينة في القرن العشرين، لم تطرأ تغييرات جذرية، يستطيع ابن المرحلة الحالية تمييز أماكن الماضي، الميناء والأسواق والحارات .
مروراً بِمرسم فني مفعم بالألون؛ نعود إلى البحر، شاطئ المدينة الجنوبي، حيث يشتغل غالبية سكانه بالصيد، قوارب تطفو بِمن عليها على بحر هادئ على مقربة من الشاطئ، التصاق أزلي معقود بالسكينة.
في الريف تكتمل الحكايا، الأشجار أرواح تحمل أسرار الأجيال، المملكة الأثرية «أوغاريت» صامدة وشامخة رغم كل ما حل بها من دمار، حجارتها شاهدة على الحضارات الأولى، هنا انطلقت المدنية بِأبهى معالمها، الأبجدية الأولى، النوتة الموسيقية الأولى، المحراث الزراعي الأول .
لم تُسر اللاذقية لِكاميرا المخرج بِمكنوناتها كاملة، ماذا عن همومها؟ وهل هي راضية عن استكانة أبنائها؟ أين هي اليوم في معادلة الزمن بين ماضٍ تعتز بِه وحاضرٍ واهن وساكن؟ أما آنَّ لها أن تقوم وتحيا بعد طول سبات!
الساعة متوقفة تُشير إلى العاشرة وعشر دقائق، كما عجلة التطور والتغيير في المدينة، يُحرِّك الممثل عقاربها عكسياً نحو الماضي، هناك كانت «أوغاريت» المملكة، وسيدة المدائن، وكان أهلها تحت لوائها هانئين، يحمل مع صديقته صور المدينة ويحجّون إلى حرمها، يعودون إلى رحمها لعلهم يُبعثون أحراراً مبدعين.
العودة إلى الجذور لِاستنهاض الهمم، تلك «أناغيم» مدينة تُعاتب أبناؤها بِكل المحبة والود، لعل البوح يُجدِي.
يغيب عن الفيلم أي اشتغال سينمائي يميز صنعته، لقطات عادية، إضاءة تعتمد على الطبيعية منها، لا معالجة مُبتكرة الصورة، كما لا معادلات تناسبية للأحجام والضوء.
لا نعلم إن كان ذلك مقصوداً ويستند إلى رؤية فنية، أم يتبع لِوضع انتاجي محدد، لكن المؤكد أنّه لم يؤثر على جودة الفيلم، بل أثبت أن البلاغة في الصورة الأصلية قادرة على الوصول وإيفاء الأفكار حقها، وتماهت بساطة الصنعة مع بساطة المدينة بِتوالف داعم للفيلم.