فلسطين في منام محمد ملص
حينما تغادر مكاناً ما، أو أناساً اعتدت العيش معهم لوقت طويل، سيبدأ عقلك الباطن تعويضك عن الغياب وإشباع رغبتك في اللقاء باستحضارهم في الأحلام. هذا ما ظهر جيداً في الفيلم الوثائقي الذي يبدأ بحلم النصر، للمخرج السوري محمد ملص فيلم ” المنام”.
محمد ملص الذي ولد في مدينة القنيطرة ونزح منها إلى دمشق مع عائلته بعد فقدان أبيه، تخرج عام 1974 من كلية موسكو للأفلام. وفي هذا الفيلم أجرى مقابلات مع أكثر من ٤٠٠ شخص، أطفال ونساء وكبار سن، مسلحون وعزل، من مخيمات اللاجئين الفلسطينيين صبرا وشاتيلا وبرج البراجنة وعين الحلوة والراشدية وعين البارد في لبنان. مقابلات يسألهم فيها عن أحلامهم والتي قادتهم دائمًا إلى فلسطين.
في منام ملص يظهر حلم الفلسطينيين المهجرين بعد النكبة، ويتماهى الخط الرفيع ما بين الرؤى والأحلام، فيوثق الفيلم أحداث ومشاعر ونكبات شعب هجر بعد 32 عاماً من إبعاده عن أرضه.
مخيمات صبرا وشاتيلا ما قبل المجزرة:
تم تصوير الفيلم عام 1981قبل عدة شهور من مذابح “صبرا وشاتيلا” التي حدثت في 16 سبتمبر 1982. التي أدت إلى خروج المقاتلين الفلسطينيين من لبنان، والتي راح ضحيتها العديد من الشخصيات التي ظهرت في الفيلم.
الفلسطينيون في هذه المخيمات عمالٌ مجتهدون منشغلون بالحياة وصابرون، في قلبهم يكبر الحزن لكن يُمنع عليه الخروج. أناسٌ منكسرون رغم الابتسامات، يحلمون بما رسخ في ظنهم أنهم لا يستطيعون الوصول إليه.
وفيه تظهر لنا هذه المخيمات بشوارعها وبيوتها النظيفة رغم العشوائية، بيوتٌ بنيت على عجل لأول شعبٍ عربيٍّ تعرض للتهجير، إذ اعتُقد أنها إقامة مؤقتة، وكان أمل العودة قائماً، فكان المرجو منها تأمين حماية مؤقتة لأهلها.
بيوتٌ ملأى بصورٍ لمن رحل من الأحباب، رحلوا وبقيت صورهم معلقةً على جدران المنازل والبيوت، كما ألعاب الطفولة وتذكارات أخرى علقت جنباً إلى جنب.
توقف ملص عن العمل في المشروع بعد المجازر. ثم عاد إليه في عام ١٩٨٦ لينتقي من الساعات المصورة 45 دقيقة تمثل المادة التي ستشكل فيلم “المنام”، والذي صدر في عام ١٩٨٧من إنتاج مرام للسينما، وأدار الإنتاج مخرج الوثائقيات السوري الراحل عمر أميرلاي.
وفي عام 1991 أخرج ملص بقية الأحلام إلى النور فنشرها في كتاب “المنام” من 205 صفحة صادر عن دار الآداب.
الفلسطينيون في المنام:
زار “ملص” شخصياته في هذا الفيلم في أماكنِ عملها؛ في السوقِ، داخل صالون حلاقة، مصنع للأحذية، والمسلخ ، حيث ركزت الكاميرا على السكين أثناء شحذها، في مشهدٍ تكرر برمزيةٍ مقصودة كان ملص السباق في استخدامها وكررها زملاء سوريون له لاحقا.
الفلسطينيون في “المنام” شهداءٌ مفتقدون مكرمون في الغياب، أو عمالٌ كادحون، مهجرون ومغتربون، ومناضلون متمسكون بأسلحتهم، حالمون يترافق في أحلامهم اليأس مع الأمل، مستمرون في الحياة والعمل.
أحدهم اختار بعد التهجير السكن في صيدا لأن مناخها “زي” مناخ يافا، ولكنه مُنِع من الصيد لأن قاربه فلسطيني ويجب أن يكون لبنانياً ليسمح له بالصيد. اعتقل، وبعد خروجه من السجن وجد قاربه محطماً! وكأنَّ ما مرَّ به من عذاباتٍ سابقة ليست كافية فها هو الأخ يضيق على أخيه سبل العيش.
أما النساء فبدا أنهنَّ متجاوزاتٍ للهزائم، تكثر في أحاديثهن سير الشهادة والشهداء، فنرى أماً فلسطينية تمسكُ “رشاشاً” بقوةٍ وافتخار، كان قد صنعهُ ابنها قبل اندلاع الثورة عام 1965م، وكأنه شعر بحاجته لسلاحٍ يحمي فيه نفسه وعائلته ويقاوم محتلي الأرض. و أمّاً ثانية كانت تعنى بوليدها هي الآن تصب اهتمامها على قبره.
نساءٌ منضماتٌ للمقاومة العسكرية والعمل السياسي، يحلمن بالسفر بعيداً عن الخيبات، أو بعمل انقلاباتٍ عسكريةٍ في قاعاتٍ مقاعدها فارغة تماماً.
وأخرياتٌ صابراتٌ على الجرح والهجر والتهجير الذي اضطر إليه أزواجهم بحثاً عن لقمة العيش أو لانضمامهم للعمل الفدائي. فواحدة زوجها في ليبيا، وأخرى في السعودية، وثالثة زوجها في جزيرة داس النفطية في أبوظبي، والتي في وقتها كانت ممنوعة على النساء.
فصببن اهتمامهن على أطفالهن وبيوتهن التي تشع نظافة وترتيباً، يتحدثن بطلاقة عما كان وما سيكون، كأنَّ لديهنَ علماً تامَّاً بما حدث ويحدث وبما سيحدث.
أما الأطفال في المخيمات فما زال قصف الطيران والموت يرافقهم في مناماتهم.
وثّقت كاميرا ملص طقوس الاجتماعات العائلية المستمرة رغم النكبة والتهجير. وأحلاماً فيها الكثير من الغرائبية والسريالية، أحدها – على سبيل المثال – لشابٍ يروي أنه رأى نفسه يركبُ في شاحنةٍ عائدين إلى فلسطين، وحين وصلوا إليها بكى لأنه بقي وحيداً بعد أن توزع أبناء المخيم الواحد على القرى والبلدات والمدن الفلسطينية التي ينتمون إليها قبل النكبة!.
فيلم متماسك بألوانٍ قاتمة وخلفيات سوداء في بعض المقابلات ، فيه تم توظيف الإضاءة والصورة والكلمة، والموسيقى، والأغنية، والقصيدة، والنصوص القرآنية بأفضل وجه.
فيلمٌ يظهر لنا كيف أنَّ الناس حين يعجزون عن الفعل يعوضهم المنام، وحين يعجزون عن تقبل الفقد يعود إليهم المفتقدون في المنام أيضاً..
روى فيصل حلمه في “المنام” فقال: ” شفت إنه إحنا، أهالي المخيم، راكبين بشاحنات وحاملين أغراضنا، وراجعين على فلسطين. بعد ما قطعنا “الناقورة” شفت بحيرة كبيرة، تطلعت وسألت أبوي عنها، قال لي “واك يا بابا، هاي طبريا، مش عارفها؟
حسيت لحظتها من كلام أبوي إنه انشرح صدري، وصرت أتطلع، وشفت من الشاحنة الماشية الأرض خضرا خضرا، وكلها شجر زيتون.”