خالد جلال.. المايسترو الذي يصنع من تراب الموهبة ذهبًا

مصطفى الكيلاني
في عالم المسرح المصري، حيث تتلاطم أمواج المواهب وتتنافس الأضواء، يظل اسم خالد جلال منارة راسخة، لا تنطفئ شعلتها، بل تزداد توهجًا لتضيء الطريق لأجيال متعاقبة من الفنانين. لم يكن يومًا مجرد مخرج تقليدي يكتفي بتوجيه ممثل أو توزيع دور، بل هو “جواهرجي” فذ، كما لُقّب، يرى في كل موهبة خام، حجرًا كريمًا ينتظر ومضة الصقل. لقد حوّل خشبة المسرح إلى “معمل مواهب” يفوح منه عبير الإبداع الأصيل، ليخرج منه في كل موسم عددا من النجوم يزينون سماء الفن المصري.
ولد خالد جلال في مدينة الزقازيق عام 1967، وبدأت رحلته الفنية من المكان الذي شهد ميلاد العديد من العمالقة: مسرح الجامعة. في رحاب كلية التجارة بجامعة القاهرة، لم يكن طالبًا عاديًا، بل كان فنانًا يتحرك في داخله شغف لا يهدأ. هناك، أسس فرقته “لقاء” التي كانت مختبره الأول، حيث صاغ أولى خطواته في التأليف والإخراج، وشكّل ملامح فلسفته المسرحية التي تعانق الواقع وتنبض بروح الشباب. هذا الشغف لم يظل حبيس الهواية، بل دفعه إلى صقله بالدراسة الأكاديمية في المعهد العالي للفنون المسرحية، ثم كانت روما محطته الفارقة، حيث حصل على منحة لدراسة الإخراج المسرحي، ليعود منها محملاً برؤى فنية جديدة تمزج بين أصالة المسرح المصري وبهجة المدارس العالمية.

عندما تولى خالد جلال إدارة مركز الإبداع الفني بدار الأوبرا المصرية، لم يكن مجرد مدير، بل كان قائدًا لثورة فنية هادئة. تحول هذا المكان الصغير، الذي يصفه جلال بأنه “أجمل 30 متر في مصر ومشروع عمره”، إلى مختبر فني نابض بالحياة ومصنع حقيقي للنجوم. لم يعد المركز مجرد مقر لعروض مسرحية، بل أصبح أكاديمية شاملة تضج بالورش والتدريبات في التمثيل والغناء والرقص وكل فنون الأداء.
في هذا المصنع، تُصهر المواهب في بوتقة من الانضباط الحديدي والشغف اللامحدود. يؤمن جلال بأن المسرح مدرسة للحياة، تبدأ بالالتزام الصارم وتنتهي بالإبداع الحر، وأن الفنان الحقيقي هو فنان شامل، يتقن التمثيل والغناء والاستعراض، ليقدم لوحة فنية مترابطة تسحر الألباب. لا مكان للنصوص الجامدة في عالمه؛ فكل عمل مسرحي هو حكاية تولد من رحم الارتجال، ومن نبض الشارع، ومن صدق التجربة الإنسانية. وهو يعرف بفطرة الخبير متى يربت على كتف الممثل تشجيعًا، ومتى يواجهه بنقد قاسٍ كضربة إزميل النحات، لا تهدف إلا لكشف أجمل ما في الموهبة الكامنة.

ومن رحم هذا المنهج، وُلدت ظواهر فنية واجتماعية أعادت الجمهور إلى المسرح. ولعل “قهوة سادة” التي بزغ نورها في عام 2009، لم تكن مجرد عرض مسرحي، بل كانت بمثابة إعلان ميلاد لزمن فني جديد. كانت تلك المسرحية بمثابة نهر تدفق منه جيل كامل من الفنانين الذين أصبحوا اليوم أعمدة الدراما والسينما. على تلك الخشبة، وقف محمد فراج، ومحمد ممدوح (تايسون)، ومحمد سلام، وهشام إسماعيل، ومحمد علي رزق ومحمد ثروت، وغيرهم الكثير، لم يكونوا مجرد ممثلين، بل كانوا طاقة إبداعية متفجرة أضاءت المسرح بصدقها وعفويتها.
لقد أثبتت “قهوة سادة” أن المسرح قادر على أن يكون مرآة حقيقية للمجتمع، وأن الكوميديا يمكن أن تكون أداة للنقد العميق، وأن الموهبة الحقيقية لا تحتاج إلى إنتاج ضخم لتصل إلى قلوب الناس. استمرارية هذا العرض وذكره حتى اليوم، بعد مرور كل هذه السنوات، هو الدليل الأكبر على أنه لم يكن مجرد نجاح عابر، بل كان نقطة تحول حقيقية في تاريخ المسرح الشبابي في مصر.

ولم يتوقف أثر خالد جلال عند حدود خشبة المسرح، بل امتد ليغذي السينما والدراما التلفزيونية بأجيال من المواهب الأصيلة. فأسماء مثل بيومي فؤاد، ونضال الشافعي، وسامح حسين، وعلي ربيع، ومحمد أنور، وإسلام إبراهيم، والقائمة تطول، جميعهم مروا من “مصنع النجوم” الذي يديره. أصبح لقب “خريج ورشة خالد جلال” بمثابة علامة جودة وصك ثقة يفتح الأبواب المغلقة في الوسط الفني، ويمنح صاحبه احترام الجمهور والنقاد على حد سواء.

حصل خالد جلال على العديد من الجوائز والتكريمات الهامة، أبرزها جائزة الدولة للتفوق في الفنون وجائزة الدولة للإبداع، لكن التكريم الأكبر يبقى في رؤية تلاميذه وهم يحصدون المجد ويحملون شعلة الإبداع التي أوقدها في قلوبهم. في زمن تتسارع فيه الإيقاعات وتخطف الأبصار الشاشات الصغيرة، أعاد خالد جلال للمسرح هيبته وقيمته، وأثبت أنه ليس مجرد وسيلة للعرض، بل هو مصنع حقيقي للنجوم، ومدرسة لبناء الإنسان الفنان. سيظل اسمه محفورًا في ذاكرة الفن المصري، ليس فقط لأنه أخرج عروضًا خالدة، بل لأنه “المايسترو” الذي عرف كيف يصنع من الحلم حقيقة، ومن الموهبة نجمًا ساطعًا.
